مصر... الإفراج عن السجناء يستلزم الإنصاف والشفافية

28 أكتوبر 2022
+ الخط -

مرّ على الدعوة إلى الحوار الوطني في مصر، وإعادة تشكيل لجنة العفو المختصة بالنظر في ملف السجناء، ما يقارب ستة أشهر، أفرج خلالها عن ألف سجين، وسبق وأعلنت اللجنة بالتعاون مع أحزاب ومنظمات مجتمع مدني عن قائمة للإفراج تقارب 2500 سجين، كما تلقّت اللجنة، وبشكل يومي، حسب ما أعلنت، طلباتٍ للإفراج عبر موقعها الإلكتروني، لكنها لم تعلن حصراً لعدد طلبات العفو، غير ما طرحته اللجنة عبر تصريح أحد أعضائها من تكذيب لتقدير عدد المعتقلين بـ60 ألفا. وليس في وسع المرء إلا أن يتمنّى أن تخلو السجون من معتقلي الرأي، والذين تعرّضوا للسجن ظلماً، غير صنوف سوء المعاملة في ظروف الاحتجاز، وأن يتوفر كذلك قدرٌ من المصارحة بشأن عدد السجناء، بما يحقّق معايير الشفافية، لكن هذا يُقابَل بتحدّياتٍ ضمنها غياب الحقائق والمصارحة، وبقاء بنية تشريعات وسياسات بنيت على أرضية الخصومة، ويقابل ملف السجناء أيضا عدم إعلان عن توقيتات زمنية لإنهاء الأزمة، بل واستمرار سياسة الاحتجاز، وتدوير بعضهم في قضايا جديدة، رغم تزايد المطالب بسرعة الإفراج عن السجناء، وانتظار دفعاتٍ متتالية من الإفراجات، وإن كانت محدودة العدد.

ولكن بقاء سياسات الملاحقة سيعيد تعبئة السجون المكدّسة أصلاً والعاجزة عن الاستيعاب، حسب ما أعلن من قبل، ودفع السلطة إلى إنشاء مجمع للسجون. وإذ كانت تقديرات منظمات حقوق الإنسان عن عدد السجناء غير صحيحة، ونزيد على ذلك أنها متضاربة، وعلمنا أخيراً أن الحكومة قدّمت إيضاحات عن أوضاع السجناء وعددهم في اجتماع مع لجنة البرلمان الأوروبي، فإن الشعب المصري (وربما برلمانه) أحقّ بالمعرفة، بدلا من التكتّم حول طبيعة الأزمة وحجمها. وفي كل الأحوال، المصارحة بشأن حقيقة الأزمة جزء من تفكيكها، وإجلاء الحقائق بجانب أنه تطبيق للشفافية والحق في المعرفة، يساهم بما يتوافر من بيانات لوضع خطة لخروج السجناء في توقيتات مجدولة، وهذا وإن اختصت به لجان العفو لتمكينها من دورها، فإن إعلانه مفيد أيضاً للمجتمع. وإذا كان خروج ألف شخص قد استغرق ستة أشهر، فمتى يمكن إنهاء الأزمة، والتي تساهم في رد بعض المظالم وتخفيف الأعباء عن السجناء وذويهم، وأيضاً عن السلطة التي تكرّر إعلان نيتها الإصلاح، وتحتاج ذلك، ويشيد المنتمون لصفوفها بإيجابية حملات الإفراج، وهي تصريحات مقدّرة، حتى وإن ظل بعض المادحين حالياً سنوات صامتين وبعض منهم كان ضمن مؤيدي إجراءاتٍ ساهمت في تفاقم أزمة السجناء.

الأمر الثاني أن معظم قوائم العفو تضم المشتغلين في المجال العام من صحافيين وأعضاء في الأحزاب والمجتمع المدني، وهذا يحمل ردّا للمظالم ويساهم في الحدّ من حالة التربّص بمجتمع السياسة. ويمكن التأسيس عليه، وربما يهيئ الوضع كما قصد منه بإجراء حوار مع جزء من القوى السياسية، إلا أن من المهم أن تكون آثار التشريعات والإجراءات التي قبض بموجبها على دائرة أوسع من مجتمع السياسة في الحسبان، حتى لا يكون هناك تمييز أو شعور مضاعف بالظلم لدى بعض السجناء الآخرين وذويهم، وهو ما جرى نقاشه في الإشارة إلى السجين الذي لا نعرفه، أو شعار فلان الفلاني أو حملة إلى آخر سجين. وتظهر شكاوى تنشر ومناشدات بالإفراج عن معتقلين، أن هناك سجناء خارج مجتمع السياسة، سجنوا بآليات وتشريعات سُجن بسببها فاعلون في المجال العام، لكن التعامل الذي يحمل تمييزاً ينبه إلى التعامل مع ملف السجناء بوصفه يختصّ بأفراد من النخب في أغلبه، وإن شملت القوائم أخيراً أسماء ليست ضمن مجتمع النخب، فإن تعزيز معايير المساواة في قوائم الإفراج وتطبيق معايير واضحة، يكسب جهود الإفراج عن السجناء المصداقية. هذا فضلاً عن التعاطي مع قضية السجناء والإفراج عنهم بوصفها ردّاً للمظالم، خصوصا في قضايا الرأي، وكثير منهم قضوا سنوات بسبب ظهور في برنامج تلفزيوني أو كتابة رأي أو تصريح سياسي أو مواقف معارضة أو مشاركة في ثورة يناير.

بقاء سياسات الملاحقة سيعيد تعبئة السجون المكدّسة أصلاً والعاجزة عن الاستيعاب

إجلاء الحقائق بشأن عدد السجناء والقضايا التي سجنوا بسببها، وتمكين لجنة العفو من هذه البيانات وإطلاع المجتمع ككل على طبيعة الأزمة جزء من الحل. وإذا كانت هناك اتجاهات متصارعة بشأن ملف السجناء فإن من الضروري فهم أن الملف ليس عبئا وحسب على ذوي السجناء أو أداة تهديد للناشطين في المجال العام، ولكن أيضا أن حلها يخفّف من أزمات تحاصر المجتمع.

وثالثا، خضعت اشتراطات العفو للتغير، كانت تتحدّث، في البداية، عن إمكانية الإفراج عن كل من لم يتورّط في قضايا العنف، ثم قلصت على من لم تصدُر بشأنهم أحكام، ذلك حسب موقع اللجنة التي تتلقى طلبات العفو. بهذا المعنى، سيكون المرشّحون للعفو من هم قيد الحبس الاحتياطي والتحقيق، ويستبعد من صدرت ضدهم أحكام في قضايا الرأي، في سياقات وظفت التشريع في مواجهة سياسية، غير ما يشوب قضاياهم من غيابٍ لمقتضيات العدالة وانتهاك لحقوقهم كمتهمين.

وأخيراً، أصدرت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية تقريراً مهماً يزيد عن 40 صفحة، يتناول بالتحليل القضية التي سجن فيها عبد المنعم أبو الفتوح ومحمد القصاص وآخرون، ويعتبر بما تضمنه من تتبع سير القضية من بدايتها في 2018 وحتى صدور الحكم فيها في مايو/ أيار 2022، دراسة مهمة عبر قراءة للأوراق الرسمية، مرافعات هيئة الدفاع، وحيثيات الحكم. يبين التقرير أن سياق القضية جاء مع انتخابات الرئاسة والتنافس السياسي أو إبداء مواقف حول الانتخابات، وحينها ألقي القبض على سامي عنان وأحمد قنصوة، حين أعلن كل منهما استعداده للترشّح. بقي قنصوه سجينا، بينما أفرِج عن عنان، وبقي المستشار هشام جنينة سجيناً في السياق نفسه، واتهم بنشر أخبار كاذبة بسبب تقرير عن الفساد، صدر للمفارقة من مؤسّسة رسمية، الجهاز المركزي للمحاسبات، وعزل من منصبه. وتزامن الاتهام مع اصطفاف جنينة مع عنان في حملته الرئاسية، بينما قبض على عبد المنعم أبو الفتوح ومحمد القصاص حين أعلن حزب مصر القوية الدعوة إلى مقاطعة الانتخابات. وبعد ثلاث سنوات من الحبس الاحتياطي، أحيل ضمن القضية في أغسطس/ آب 2021 نحو 25 متهمًا لمحاكمتهم بتهم تتصل بالإرهاب من 1992 حتى 21 أغسطس 2018!

وكان الأمر محاكمة لمسيرة سياسية بأثر رجعي. في هذه القضية مثال يستدعي بحث مسألة العدالة الجنائية، وظروف قضايا الرأي، وكيف تأسّست الأزمة، وسجن أشخاص بسبب مواقف أو نشر آراء تختص بالأحوال السياسية والاقتصادية. وفي تقرير المبادرة التي شاركت ضمن هيئة الدفاع عن بعض المتهمين، رصدت أشكال سوء المعاملة وضمنها ظروف الاحتجاز، كمثال تعرّض معاذ الشرقاوي للتعذيب، وما ترتّب عليه من اعترافاتٍ بالإكراه، وضمن القضية إهدار حق بعض المتهمين في الدفاع.

وإذا جرى استبعاد إمكانية الإفراج عمن صدرت عليهم أحكام، كما تقول لجنة العفو، فذلك يعني تقليص عدد من يمكن الإفراج عنهم مستقبلاً، وعدم استخدام نصوص وصلاحيات قانونية للإفراج الشرطي، غير عدم تمكين المحكوم عليهم في قضايا الرأي من الإفراج بموجب عمل اللجنة. وهذا يعني بقاء أشكال من المظالم التي وقعت على سجناء كثيرين في قضايا الرأي خلال أجواء الصراع مع الإخوان المسلمين، والذين لم يعودوا منافساً للنظام حالياً، بل في حالة تفسّخ بعد ضربات متتالية وتعرّضهم للسجن، غير إعلان كتل منهم انسحابها من العمل السياسي، كما مجموعة لندن، وهو تحصيل حاصل لما جرى.

تشير تحرّيات قضية أبو الفتوح إلى أن لقاء تلفزيونياً أجري في لندن مع المرشّح الرئاسي السابق يقع ضمن المخطّط العام الذي يهدف إلى "تصعيد أنشطة التنظيم الإرهابية والتخريبية تجاه الدولة، وإشاعة الفوضى، بغرض الانقضاض على السلطة"، ويتشابه حال أبو الفتوح مع قضايا أخرى تتعلق بحرّية التعبير.

كانت اشتراطات العفو للتغير تتحدّث، في البداية، عن إمكانية الإفراج عن كل من لم يتورّط في قضايا العنف، ثم قلصت على من لم تصدُر بشأنهم أحكام 

غير ما يلحق ببعض السجناء خلال عمليات التحقيق من ضغوط وسوء المعاملة، يستدعي مراجعة أوضاعهم. وهنا يمكن إدراج شهادة معاذ الشرقاوي عن خضوعه للتحقيق من دون دفاع، وما أفاد به، حسب التقرير، من تعرّضه للتحقيق تحت التعذيب. يقول معاذ "تعرضت لصعق بالكهرباء وضرب بالإيدي والشبشب على وشي، وشتايم، وقلعت هدومي كلها عشان أعترف... استمر التعذيب ده مرتين أول يوم روحت وبعدها بيومين". وروى معاذ لمحقق نيابة أمن الدولة التعذيب البدني خلال التحقيقات غير الرسمية لإجباره على الاعتراف بالاتهامات التي وُجهت له قبل عرضه على النيابة. كما أشار تقرير المبادرة إلى توثيقها عشرات القضايا في السنوات الأخيرة، والتي لا يلتفت فيها إلى العوار في إجراءات القبض والحبس، والذي تحوّل إلى عقوبات استباقية.

ورابعاً، لا ينفصل ملف الإفراج عن أوضاع السجناء حالياً، وهي قضية تحتاج معالجة واستجابات سريعة، بالعودة إلى تقرير المبادرة، فقد أشار إلى الحبس الانفرادي بوصفه تنكيلاً قانونياً، يحكم تطبيقه قانون تنظيم السجون (المادة 43) بألا يزيد عن 30 يومًا في حدّ أقصى، هذا ويحظر الحبس الانفرادي المطوّل، باعتباره أمرًا يرقى إلى مرتبة التعذيب، حسب قواعد الأمم المتحدة لمعاملة السجناء. ولكن في حالة أبو الفتوح والقصّاص بلغت مدة سجنهم، حسب التقرير، أربع سنوات، ومُنعا خلالها من ممارسة التريّض والتواصل اللائق مع أسرتيهما؛ كما رفضت محكمة القضاء الإداري في 23 إبريل/ نيسان 2022، الدعوى التي أقامها أبو الفتوح لتمكينه من إدخال الكتب، ودخول مكتبة السجن، والاشتراك في الصحف. ورغم احتياجه لرعاية طبية تناسب ما يعانيه من أمراض عدة (تجاوز 70 عاما) منها صعوبة في التنفس، ما عرّضه لأزمات قلبية، إلا أن طلبات أفراد أسرته نقله مؤقتا لأي مستشفى داخل السجن أو خارجه على نفقته الخاصة لم يتلقوا أي ردٍّ عليها.

أصبح رفع الظلم لما له من آثار شديدة القسوة أمراً ملحّاً، وهذا يتطلب إجلاء الحقائق، واتخاذ خطوات تفكّك الأزمة

استطاع القصاص أن يرى الشمس والتريّض بعد نقله، هو وآخرون إلى مجمع سجون بدر، والذي يعدّ أفضل من حيث التهوية، لكن وضمن ظروف السجن، وحسب شهادات أهالي السجناء، منهم أسرة زياد العليمي، وصفوان ثابت رجل الأعمال، يتعرض السجناء إلى إضاءة متواصلة على مدار اليوم، لا يستطيعون التحكم في مفاتيح الضوء، ورفضت إدارة السجن إغلاقها، وهو ما وصفه المحامي الحقوقي خالد علي، خلال دعوى قانونية مسلكا من سوء المعاملة والتعذيب. ولا يختلف الأمر في ما يخص سجناء آخرين تعرّضوا لظاهرة التدوير، وتكرار السجن، ومنهم حالة علاء عبد الفتاح المضرب عن الطعام، والذي قد يفقد حياته، أو تكرار سجن شريف الروبي ومحمد عادل، وكلاهما من شباب ثورة يناير.

إذا كانت الدولة المصرية فعلياً تريد فتح صفحة جديدة مع كل أطياف القوى والتيارات المختلفة معها، حسب ما تعلنه، وتريد تخفيف حدّة الانقسام المجتمعي فعليا، فذلك يحتاج للمصارحة، ووقف عمليات الاستهداف على أرضية الخصومة السياسية، أو التنكيل. لقد أصبح رفع الظلم لما له من آثار شديدة القسوة أمراً ملحّاً، وهذا يتطلب إجلاء الحقائق، واتخاذ خطوات تفكّك الأزمة، واستخدام أدوات التشريع، وصلاحيات قانونية ممكنة بشأن الإفراج الشرطي، وتسريع وتيرة النظر في قضايا الرأي والتظاهر خصوصاً، والتي سجن بسببها عمّال وأعضاء أحزاب ونقابات، وسكان مارسوا احتجاجهم أو عبّروا عن ضيق أوضاعهم الاقتصادية.

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".