مشهد غسيل الدم في باريس

13 يناير 2015

نتنياهو في الصف الأول في مسيرة باريس (أ.ف.ب)

+ الخط -
كان مشهد المسيرة التضامنية مع ضحايا الهجوم على مقر صحيفة "شارلي إيبدو" أكثر تأثيراً، بالمعنى الإنساني، لو اقتصر على إدانة الجريمة، من دون إخضاعها للحسابات السياسية أو العنصرية، سواء للحكومات أو التيارات اليمينية أو الإسلاموفوبيا.
لا ننكر أن الجريمة تغذي العنصرية والخوف من العرب والمسلمين والعداء لهم، لكن ما نراه في العواصم الكبرى وأغلب وسائل الإعلام، هو، أيضاً جريمة من نوع آخر؛ جريمة تبرير كل جرائم الاستعمار والحروب وكل ما ارتكبته أميركا وإسرائيل ضد الشعوب العربية.
تنصيب زعماء أنفسهم قيّمين على حقوق الإنسان في باريس جعل من المشهد طقساً من طقوس غسيل الدم وتبرئة النفس من إجرامهم، ماضياً وحاضراً، من احتلال الجزائر إلى غزو العراق، وإلى المجازر ضد الشعب الفلسطيني، وكل ما سبق ذلك كله وتبعه.
وقوف مجرم الحرب، بنيامين نتنياهو، على رأس المسيرة الباريسية عار على الإنسانية، وليس له إلا معنى واحد: الإجرام مقبول، بل ومدعوم، إذا كان يخدم أجندات القوى الدولية والنزاعات العصرية، لأنه كله يعتمد على هوية القاتل ودوافعه، وعلى كيفية استغلال الجريمة في خدمة النظام العالمي المبني على الظلم والاستبداد.
لا نعرف بعد كل التفاصيل عن مرتكبي الهجوم، لكننا نعرف أن التمييز والتفرقة العنصرية يجعلان الشباب المقهور فريسة المنظمات المتطرفة التي تستغلهم بشكل قبيح، لأهداف ليس لها علاقة بالدفاع عن المظلومين، فالقاعدة وداعش لا يمثلان حركات ثورية، بل عقلية باردة، تفهم اللعبة والتناقضات لفرض سطوتها بالقوة.
لا يهم هذه المجموعات تحدي الظلم، بقدر ما يهمها تعميق الفرز ودبّ الذعر، تماماً مثل ما تفعل القوى الكبرى، فنشر الخوف من "الآخر" يخدم الحروب الاستعمارية الإرهابية، مثلما يخدم المجموعات المتطرفة وإرهابها. لكن، ما لا يهم هذه المجموعات التي تلتحف بالدين الإسلامي أن محصلة المعركة تتسبب في خسارة فادحة لكل قضايانا العادلة.
فبينما كانت إسرائيل تواجه تداعيات مجازر حرب غزة، وكانت واشنطن تعمل على منع عضوية فلسطين في محكمة الجنايات الدولية، هبط الهجوم الباريسي هدية من السماء، ليعيد نتنياهو إعادة إنتاج نفسه حاميّاً لليهود والمجتمعات الغربية، لأنه يعرف أن الخوف غريزة تعمي البصيرة.
كما يجري استغلال الذعر لتصعيد هجرة يهود فرنسا إلى إسرائيل بتصوير ما حدث "عداء للسامية"، خصوصاً أن بين الضحايا يهوداً، وصرخات "الله أكبر" لم ولن تفهم إلا في سياق رؤية ثنائية تقسم العالم إلى مسلمين وغير مسلمين، وهي رؤية تخدم الحروب الاستعمارية وإسرائيل والقاعدة ومشتقاتها، ولن تخدم العدالة والتحرر.
ليس علينا الاعتذار، فلسنا في قفص الاتهام، أو تبني شعار "أنا شارلي" الذي تجاوز إدانة الجريمة إلى التضامن مع الإسلاموفوبيا والعنصرية، فالتضامن مع الضحايا لا يكون بالتضامن مع رسومات المجلة التي ساهمت في التحريض ضد المسلمين وأضرّت بالمسلمين والعرب في فرنسا بالذات.
لكن، علينا الاعتراف بأن هناك خللاً مفهوميّاً للدين موصولاً بالشعور بالدونية أمام الغرب، يجعلنا نحاول إثبات براءتنا كل الوقت، أو الانتصار الوهمي لرموزنا الحضارية والدينية، بما يسيء للرموز نفسها وللحضارة التي نسعى إلى الدفاع عنها، وهذا دليل ضعف وعجز، وليس دليل قوة.
حرية التعبير، ولو أساءت لنا، لا تسيء بقدر ردود الفعل المتطرفة، التي تصبح دعاية مجانية لحروب وبطش وغزو وقتل وتنكيل ضدنا. جريمة الهجوم على مجلة "شارلي إيبدو" أضحت رمزاً دائماً ضد عدالة قضايا، وعنواناً لكل الحروب الإسرائيلية والأميركية المقبلة.


دلالات