ما بعد الاغتيالات... الأخطر قادم
فتحت عملية الاغتيال المزدوجة التي ارتكبتها إسرائيل ضد قائديْن بارزين في المقاومتين، اللبنانية والفلسطينية، الباب على مصراعيْه لحرب مفتوحة في المنطقة، وإنْ لا تريدها واشنطن، وطهران تردّ عادة بخطوات مدروسة تلافيا لمواجهة شاملة مع إسرائيل وأميركا. لكنها ضربة قوية لا يمكن لإيران أو حزب الله أو حركة حماس عدم الردّ، والتحدّي هو في كيف يمكن أن يكون الردّ مع تجنّب حرب مفتوحة في الوقت نفسه، والأهم تجنيب لبنان الدمار، وتجنيب أهل قطاع غزّة المنكوب بحرب إبادة صهيونية مضاعفة معاناتهم.
بداية، لا تحبّذ أميركا الحرب، وسوف تضع ثقلها لمنع حرب واسعة، لكن اغتيال القيادي الميداني في حزب الله فؤاد شكر، ورئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) إسماعيل هنيّة، خدم سياسات واشنطن وأهدافها. فواشنطن تفضّل ضربات نوعية تُؤذي المقاومة وإيران، وتُبقي الضرر في رقعة محدودة من حيث المساحة بدلاً من ضربات تدميرية تؤدّي إلى حرب واسعة وتؤذي استراتيجيتها في المنطقة وتحرجها أمام الرأي العام الأميركي والعالم، فعمليات الاغتيال تثبت وجود خروق أمنية عند إيران والمقاومتين اللبنانية والفلسطينية، وهي أيضا ضربات معنوية في محاولة لتقويض الصمود الفلسطيني في قطاع غزّة، وتدعم ادّعاء تل أبيب بتفوقها الأمني في المنطقة، وتبرّر الاستخذاء والنكوص عند المرجفين العرب، وتسهم في إنجاز هدف قتل عدة قيادات من "حماس" وتصفيتهم بوصفهم أهدافاً استراتيجية للحرب.
شكّلت هذه الاغتيالات طوق نجاة لنتنياهو، المُحاصَر داخلياً من المعارضة وأهالي الأسرى والقيادات الأمنية، وحتى الأحزاب الدينية، إذ يرى هؤلاء جميعهم أن حكومته فشلت في تحقيق انتصار وتقامر بأرواح الأسرى، وأنه (نتنياهو) يسعى إلى تعطيل صفقة تبادل الأسرى وإنهاء الحرب لإطالة عمر حكومته والتهرّب من محاسبته على تهم الفساد والفشل الأمني في منع وقوع "طوفان الأقصى"، وكذلك أزمة "الإصلاحات القانونية". إذ لا يضير نتنياهو أن تتوسّع الحرب ما دام ذلك يخدم مصالحه الشخصية ويُبعده ما أمكن عن محاسبته داخليا. وهذه فكرة كانت متداولة في تل أبيب وواشنطن منذ بدء الحرب لتحقيق نوع من انتصار إسرائيلي ضد "حماس" يمكّنها من استرداد بعض كرامتها المهدورة في "طوفان الأقصى" (7 أكتوبر الماضي) وتسارِع في إنهاء الحرب، بعد أن جعلت إسرائيل غزّة منطقة تكاد لا تصلح للعيش.
حزب الله و"حماس" لا يستطيعان تجاهل تداعيات الخسائر الإنسانية على الشعبين، الفلسطيني واللبناني، وهذا يكبل حركتهما بعض الشيء
بالرغم من التباينات بين إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، فهناك احتمال أن يكون البيت الأبيض علم مسبقا بعمليات الاغتيال، التي تتماشى مع محاولة تقويض نفوذ إيران وهيبتها عند المقاومة والفلسطينيين، وحتى جزء لا يستهان به من الرأي العام العربي. وهي تتوافق، كما سلف أعلاه، مع الاستراتيجية العسكرية الأميركية التي تفضل الضربات النوعية أو الأهداف المحددة المدروسة، من دون إحداث دمار واسع كما حدث ويحدث في غزّة. كما أنها تخدم هدف تركيز الأنظار على "العدو" أو "الخطر الإيراني" ودفع الحكومات العربية إلى المساهمة في مواجهة أي رد فعل إيراني ضد إسرائيل. ففي حال هجوم إيران على إسرائيل، تتوقع واشنطن مشاركة عربية أكبر من إسقاط بعض المسيّرات الإيرانية، كما حدث ليلة 13 نيسان/ إبريل الماضي؛ فالهدف هو التسريع في إعلان حلف ناتو عربي - إسرائيلي برعاية أميركا في مواجهة إيران، وبالتالي نسيان فلسطين والقضية الفلسطينية.
يجب، في حسابات واشنطن، توظيف كل خطوة وكل تحرّك، وهذه الحالة: ضرب إسرائيل أهدافاً نوعية، أمنياً ومعنوياً، في بيروت وطهران، تدفع إلى تحقيق رؤيتها الاستراتيجية في دمج إسرائيل في المنطقة وإعلان تأسيس تحالف أمني بين إسرائيل والدول العربية. وذلك يتطلب تطبيعا سعوديا إسرائيليا في أسرع وقت، وإن كانت فرص حدوث ذلك قبل انتخابات الرئاسة الأميركية المقبلة ليست بتلك السهولة، مع أنّ هذا هدف مشترك بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، بل هناك منافسة على من يحققه أو تكون له مساهمة أهم في تحقيقه. أي أنه ومنذ بدء حرب الإبادة الصهيونية، شكلت عمليات الاغتيال الصهيونية، بما ذلك اغتيال القائد في حركة حماس صالح العاروري في بيروت في يناير/ كانون الثاني الماضي، خطوات مهمة تحقق مصالح إسرائيلية مشتركة مع أميركا، فقد كان جزء أساسي من استياء الإدارة الأميركية من نتانياهو أنه يضع مصالحه الشخصية ورغبته في التمسّك بموقعه رئيس وزراء فوق مصالح إسرائيل وأميركا، لكن استهداف رؤوس حركة حماس وحزب الله، وقد تكون هناك أهداف أخرى في المستقبل، لا تتناقض مع الرؤية الأميركية، وإنما تقويها.
من العار أن يستمر التطبيع فيما كل شيءٍ مستباح، ونتنياهو يتحرّك ويقتل ويدمر ويغتال كما يريد
قصدت إسرائيل أن ترمي الكرة في ملعب "حماس" وإيران وحزب الله، كلّاً على حدة والثلاثة معا. وعليه؛ المنطقة مرشّحة إلى تصعيد، ليس بالضرورة أن يفتح الحرب الواسعة. وخيار أن تقدم طهران أو حزب الله على توسيع نطاق الحرب صعب؛ ليس لافتقارهما إلى الشجاعة، بل لأن إسرائيل عدو لا يأبه بالتدمير والقتل الجماعي وارتكاب الجرائم ضد المدنيين.. فما حدث ويحدُث في غزّة يفوق أي تصور أو تحمّل إنسان، وإذا تحدّثنا بصراحة، فإن كلّاً من حزب الله و"حماس" لا يستطيعان تجاهل تداعيات الخسائر الإنسانية على الشعبين، الفلسطيني واللبناني، وهذا يكبل حركتهما بعض الشيء.
ليس المقصود وضع اللوم على المقاومة، لكن التواطؤ العربي (الرسمي)، بل المشاركة في حرب الإبادة وتسريع التطبيع مع الدولة الصهيونية، شجع نتنياهو وحكومته العنصرية المجرمة على ارتكاب الجرائم المهولة التي نصحو وننام على وقعها، فيما يُحرم أهل غزّة من النوم والماء والطعام والدواء في انتظار موت قادم من السماء أو الأرض أو البحر.
إسرائيل وأميركا ماضيتان في مخطّطاتهما، وما الاغتيالات إلا سلاح توظّفانه في سبيل استكمال المشروع الصهيوني
لا يعفي الكلام أعلاه حركات المقاومة من المساءلة، والمحاسبة، وتحميلها وإيران مسؤولية التقصير في الحذر الأمني، ونقد طهران لعدم تمكّنها من حماية ضيوفها. ولكن، من الواجب التذكير بأن الأنظمة العربية تتحمّل الذنب الأكبر في عدم الوقوف أمام التوحّش الإسرائيلي وتجميد التطبيع، وإن كان ذلك أقلّ من الحد الأدنى، فمن العار أن يستمر التطبيع فيما كل شيءٍ مستباح، ونتنياهو يتحرّك ويقتل ويدمر ويغتال كما يريد، من دون وازع أو رادع، وكأنه سيد المنطقة.
إسرائيل وأميركا ماضيتان في مخطّطاتهما، وما الاغتيالات إلا سلاح توظّفانه في سبيل استكمال المشروع الصهيوني، حياة كل قائد فلسطيني ليست أغلى من حياة أي طفل لبناني أو فلسطيني تسفكها آلة القتل الصهيونية، ولكنها ضرباتٌ موجعة سياسيا ومعنويا، تمهّد إلى جر إيران إلى الانتقام وزيادة الضغوط الأميركية على دول عربية للانخراط عمليا ورسميا في حماية إسرائيل.
صحيحٌ أن لا أميركا ولا الدول العربية ولا إيران تريد حرباً تدمّر المنطقة، لكن الحماية العربية لإسرائيل بنفسها كارثة على فلسطين وعلى العرب جميعا.