مشجب "الإسلام السياسي"
من المفارقات اللافتة في سياق النقاش الدائر عن الانقلاب الرئاسي على الدستور في تونس ذلك الشطط الذي يمارسه بعض الكتاب والمعلقين في تكييف المسألة وكأنها محطة جديدة من محطات فشل "الإسلام السياسي" في الحكم. لا أتحدث هنا عن كتاب ومعلقين وقنوات ومواقع شامتة محسوبين على معسكر الثورات المضادّة، فهؤلاء شركاء مباشرون في افتعال المآتم للطم فيها. وجه الغرابة في الذين هم في الأصل من أنصار رياح التغيير والديمقراطية عربياً، أو هكذا يزعمون. تأخذك الدهشة وأنت ترى كثيرين منهم مشغولين بلوم حزب النهضة صراحة، ورفع الملام عن انقلاب قيس سعيّد ضمناً، وكأنهم لا يرون من الجمل إلا أذنه! أو قد تكون المسألة داخلةً في سياق المناكفات الحزبية والسياسية والإيديولوجية التي دفعت، في الأمس القريب، بكثير من القوى التي تنسب نفسها إلى اليسار والليبرالية (كان هناك إسلاميون أيضاً) في مصر إلى رفع شعار "بيادة العسكر ولا لحى الإخوان"، فكانت النتيجة أن داست "بيادة" العسكر رقاب الجميع بلا استثناء. إنها قمّة الانتهازية والبلاهة والخيانة لطموحاتنا، نحن العرب، في آن.
هل كان لحركة النهضة، بوصفه حزب أغلبية ضئيلة، أخطاء سهلت خطوة الانقلاب على الدستور (وليس الانقلاب الدستوري)؟ قطعاً، بل إن أخطاءها كانت قاتلة، سواء على صعيد ديناميكياتها التنظيمية الداخلية، أم تكييفها الوضع في تونس، أم ممارستها السياسية. هذا ليس محل خلاف، بل إن "النهضة" نفسها تعترف بهذا اليوم، وقد قيل وكتب الكثير في هذا السياق موضوعياً، من دون أن تضلّ البوصلة أو تشت عن أن حقيقة ما جرى هو اعتداء بَنَفَسٍ شعبويٍ سلطويٍّ على الدستور، ضمن نسق إقليمي رافض أي تجربة ديمقراطية عربية مهما كان فيها من هنات. ولكن أخطاء "النهضة" لم تكن إلا ذريعة، وهي وإن كان ينبغي أن تُقَيَّمَ وتدرس وتناقش وتنتقد وتصوّب، فإنه لا ينبغي أن يغيب عنَّا الإطار الأوسع للمشهد وتداعياته علينا جميعاً.
المفارقة الأبرز أن تجد من كانوا، وما زالوا، شركاء في الفشل، جنباً إلى جنب مع تيارات "الإسلام السياسي"، أسرع الناس إلى نَصْلِ سهام النقد والنقض
قناعتي أن من يكتبون بنفس فشل "الإسلام السياسي"، ممن يفترض أنهم مع الديمقراطية عربياً، ويختزلون المشهد برمته في ذلك، لا يتعدوّن أن يكونوا ثلاثة أنواع. الأول، من لهم خصومة إيديولوجية وسياسية مع التيارات الإسلامية، ويجدون في مثل ما حدث في تونس وسيلة للتشفّي وتسجيل النقاط الرخيصة، إذ إنها أهداف في شباك مرمانا المشترك. الثاني، جماعة "الحكمة السائدة"، والقناعات المسبقة، والقوالب الجاهزة. أولئك الذين يتبنّون مقولات وقناعات صلبة لم يخضعوها يوماً للفحص والاختبار. الثالث، الذين لا يرون الدنيا إلا من خلال ثنائيات تضادّية، وأبيض وأسود، ممن ترسانة أدواتهم التحليلية شبه خالية، إلا من المترهل البالي منها. أما المفارقة الأبرز في هذا السياق أن تجد من كانوا، وما زالوا، شركاء في الفشل، جنباً إلى جنب مع تيارات "الإسلام السياسي"، أسرع الناس إلى نَصْلِ سهام النقد والنقض.
أجد نفسي عاجزاً عن فهم منطق أشخاصٍ كانوا في السابق وزراء في حكومات شكّلتها تيارات "إسلام سياسي" أو دعمتها يغسلون أيديهم من تحمّل جزء من فاتورة الأخطاء. ينسحب الأمر نفسه على نواب ووزراء الأصل أنهم شركاء في "عطب" المؤسسات والتجربة الديمقراطية، كما يقول سعيّد واعتذاريوه. ولا يشذ عمن سبق أولئك الذين كانوا أدوات "ليبرالية" في يد الانقلاب العسكري في مصر لتقويض الديمقراطية عام 2013، ثمَّ تحوّلوا هم أنفسهم إلى مستهدفين ومطاردين ومشرّدين ولاجئين يخشون على حرياتهم وحياتهم من السلطة العسكرية، ومع ذلك ما زالوا يمارسون هوايتهم المفضلة في التضليل، ومحاولة إعادة كتابة التاريخ في مسعى يائس إلى تبييض صفحات دورهم المخزي في تمكين الانقلاب العسكري ووأد الديمقراطية في بلادهم.
يصرّ مثقفون كثيرون اليوم على ممارسة ابتسارٍ مضرٍ للسياق، واختزالٍ مخلٍّ للمشهد في فشل "الإسلام السياسي"
يستمر هؤلاء في محاولة اختزال المشهد في الصراع بين "الدولة العميقة" و"الإسلام السياسي"، وفشل هذا الأخير في الحكم، كما يقرّرون، في حين تشدّد الدولة العميقة إحكام سيطرتها على كل مناحي حياة شعوبها ودولها. في تونس، لم يوفر سعيّد أحداً من تسلّطه، علمانياً أم إسلامياً. أصبح الحاكم باسم ذاته. هو مرجعية السلطات الثلاث، تشريعية وتنفيذية وقضائية. وتحرّش بالكل، وزراء ومسؤولين وقضاة وكتلاً نيابية ومحامين وإعلاما ومؤسسات مجتمع مدني. لا تخفي دول معسكر الثورات المضادّة دعمها له، ولا تنسى في سياق حملتها على "النهضة" أن تشيطن معها الديمقراطية والحرية والحطَّ من كرامة الشعوب. بالنسبة لمعسكر الثورات المضادّة، الإسلاميون مجرّد "بُعْبُعِ" اليوم الذي يخوفون به الآخرين من رياح التغيير والحرية، والتي هي "البعبع" الحقيقي" الذي يخشونه. ولو أن من تصدّر المشهد خلال فترة الثورات العربية، قبل عقد، كانوا من غير الإسلاميين، من الليبراليين أو اليساريين أو القوميين، لكانت الأنظمة المعادية لأجندة الحرية سكبت دموع التماسيح فَرَقاً على إسلامٍ يستهدفه هؤلاء. ألم يحصل ذلك من قبل؟ ومع ذلك، يصرّ مثقفون كثيرون اليوم على ممارسة ابتسارٍ مضرٍ للسياق، واختزالٍ مخلٍّ للمشهد في فشل "الإسلام السياسي". إذا لم يكن هذا هو التواطؤ، فماذا يكون؟
باختصار، نحن أمام هجمةٍ شرسةٍ ولئيمة على مستقبلنا نحن العرب. يعمل نظام الاستبداد الرسمي العربي على تكفيرنا بالديمقراطية والحرية والكرامة. إنه يقول لنا إننا لسنا أهلاً لأيٍّ منها بعد، ويضع في دواليب أي تجربةٍ ديمقراطيةٍ عصياً، حتى نخرج نطالب بعودة "بيادة العسكر" ونذرف الدموع على أطلال المستبدّ الباطش، مقابل تأمين لقمة العيش التي بالكاد نجدها مغمّسة بالذل والمهانة. هذه هي الحقيقة التي يعمى، أو يتعامى عنها كثيرون، ممن يزعمون إنهم مع أجندة الحرية والديمقراطية عربياً، ولكنهم فشلوا في كل نقطة مفصلية في سيرورة هذه المسيرة النضالية، وخذلوا شعوبهم سذاجةً أو لؤماً، لا فرق، وبالتالي، فهم متقدّمون وسابقون على "الإسلام السياسي" في الفشل. الدولة القُطرية العربية، بكل تلوينات وتفريعات نظمها السياسية والإيديولوجية، فشلت على مدى ثمانية عقود مضت، وهي لا تملك فرصة للنجاح، ولا يوجد أفق هنا. هذه حقيقة، وهذا ليس مرتبطاً بـ"الإسلام السياسي". من ثمَّ، ماذا علينا لو قلنا إن الكل أخطأ في العقد الأخير، ثمَّ حدّدنا طبيعة تلك الأخطاء وأحجامها، ثمَّ سعينا إلى إطلاق مشروع إصلاح عربي واعٍ ومستنير يتفادى عثرات ما سلف؟