بلينكن المُهان عند عتبات نتنياهو
جال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن 11 مرّة في الشرق الأوسط خلال عام (منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023). جولات طويلة وأخرى مكّوكية لم تفضِ إلى اتفاق وقف إطلاق نار في قطاع غزّة وتبادل للأسرى، ولا هي أفلحت في الحيلولة دون توسيع رقعة الصراع في المنطقة، وهي بعض الأهداف المُعلَنة لتلك الجولات، بقدر ما أعقب كلّ واحدة منها مزيدٌ من الإجرام والتوحّش الإسرائيلي، بدعم أميركي مطلق. وفي خضمّ كلّ جولة (أو في أعقابها) كانت التسريبات الأميركية والإسرائيلية تنبئ بخلافات أميركية إسرائيلية عميقة، كان بعضها علنياً، وصلت أحياناً إلى حدّ التهديد برفع الغطاء السياسي والديبلوماسي عن إسرائيل، وفرض قيود على المساعدات العسكرية، التي مكّنتها (ولا تزال) من شنِّ حرب الإبادة في قطاع غزّة، من دون رقيب ولا حسيب. لربما لم يُهَنْ وزير خارجية أميركي على مدى سبعة عقود ونصف مضت، من إسرائيل، التي لم يكن لها أن تكون وتستمرّ لولا الدعم الأميركي، بقدر ما أهين بلينكن. لم يتردّد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في التقرير، مرّات عديدة، حين رأى أنّ من مصلحته سياسياً أن يبدو متحدّياً للولايات المتّحدة مهيناً، ليس وزير خارجيتها فقط، الذي صوّره غير مرّة في هيئة المُتسوِّل والمُتوسِّل قبول مطالب التهدئة الأميركية وخططها للمنطقة في "اليوم التالي" للحرب في قطاع غزّة، بل وكذلك لرئيسها نفسه، الذي جعل منه نتنياهو مسخرةً، حتّى وهو يزهو بتربّعه على عرش العَظَمَةِ العالمية.
اليوم، لا يبدو أنّ حظّ جولة بلينكن الحالية سيكون أحسن حالاً، حتّى إنّ كان حاملاً مزيداً من الإغراءات والرشى، أو حتّى بعض التهديد والوعيد، لنتنياهو ولحكومته المتطرّفة. لم يبقَ على الانتخابات الرئاسية الأميركية إلّا أقلّ من أسبوعين، وجو بايدن ليس مرشّحاً فيها بعد انسحابه من حلبة التنافس عليها في شهر يوليو/ تمّوز الماضي. ورغم أنّ بايدن سيبقى في البيت الأبيض قرابة شهرين ونصف الشهر (حتّى 20 يناير/ كانون الثاني 2025) بعد الانتخابات في الخامس من الشهر المقبل (نوفمبر/ تشرين الثاني)، إلّا أنّه سيكون، كما هو الآن، بطّةً عرجاء لا يملك كثيراً من القوّة السياسية لإنفاذ كثير من وعيده وتهديداته الفارغة. يدرك نتنياهو، الذي لا يبالي بنعته ناكرَ جميلٍ أنّ بايدن متلهّف (انطلاقاً من بحثه عن إنجاز يدّعيه في إرثه في السياسة الخارجية) إلى اتّفاق شامل في المنطقة يُفضي إلى وقف إطلاق نار في قطاع غزّة (والآن لبنان) ضمن ترتيبات "اليوم التالي" في القطاع ولبنان تكون في مصلحة إسرائيل، وضمن سياق إقليمي أوسع يشمل التطبيع مع السعودية، يعيد تشكيل منطقة الشرق الأوسط جيوسياسياً. ومع أنّ نتنياهو يعلم أنّ مثل تلك الترتيبات لو تمّت ستكون نصراً إسرائيلياً مؤزَّراً يساهم في عزل واحتواء إيران ومحورها في المنطقة، بعد إضعاف المقاومتَين الفلسطينية واللبنانية، إلّا أنّه لا يرى في ذلك بعد مصلحةً سياسيةً له ولائتلافه الحكومي اليميني المُتطرّف. أيضاً، فإنّ نتنياهو المنتشي ببعض الإنجازات التكتيكية، ولكن الكبيرة والعميقة، في الجبهتين الفلسطينية واللبنانية، وفي المنطقة عموماً، يرى أنّ بإمكانه مراكمة المزيد من الإنجازات وفرض تسويات وتطبيع مع بعض الدول العربية وإعادة تشكيل بنى المنطقة عبر القوّة لا التسويات، ولا "السلام" المزعوم.
لن يكون حظّ جولة بلينكن الحالية أحسن حالاً، حتّى لو حمل إغراءات أو تهديداً لنتنياهو ولحكومته المُتطرّفة
أبعد من ذلك، فإنّ نتنياهو الذي تباهى يوماً بأنّه يعرف كيف يتلاعب بالولايات المتّحدة ويحرّكها في الاتجاه الذي يريده، لا يرى حافزاً في أن يقدّم "هديةَ" وداع لبايدن، الرئيس الأميركي، الذي تجاوز في دعم إسرائيل سقوف التواطؤ كلّها، والشراكة التي بلغها من سبقه. بالنسبة لنتنياهو، فإنّ الأَولى بـ"هداياه"، إنْ كان سيقدّم أيّاً منها، هو الرئيس المقبل لا بايدن المُغادر. تنحصر المنافسة الرئاسية بين نائبة الرئيس كامالا هاريس والرئيس السابق دونالد ترامب، وكلاهما لا يقلّان دعماً وتواطؤاً مع إسرائيل من بايدن نفسه. إنْ فازت هاريس، المستاءة هي والديمقراطيون من نتنياهو، المتّهم منهم بأنّه يحاول التأثير في نتائج الانتخابات لصالح ترامب، حينها قد يفكّر نتنياهو بالكشف عن "هداياه" لها، ذلك أنّه يعلم أنّها لا تملك إلّا الاستمرار في دعم فاشية كيانه وحكومته، وحينها يحصد مزيداً من الإنجازات التي يأمل في مراكمتها مدّة شهرين ونصف الشهر المقبلة. أمّا إنّ فاز ترامب بالرئاسة، فحينها أيضاً، يمكن لنتنياهو أن يحصد الإنجازات التي راكمها من جراء الدعم الأميركي المجنون تحت إدارة بايدن، ويقدّم المقصّ لترامب، المسكون بجنون عظمة الذات، لقصّ شريط تمكين إسرائيل في المنطقة، وإعلان انتصارها الذي يرجون. أمّا بايدن، فهو رجل في طور الاحتضار البيولوجي والسياسي، بل إنّ هاريس نفسها، نائبته ووريثته في ترشيح الديمقراطيين، فلم ولا تتردّد في إهالة التراب على ذكراه وإرثه، حتّى وهو لا يزال رئيساً.
تندرج جولة بلينكن في خضمّ التفاعلات والديناميّات السابقة، وهو كما رئيسه لن يجد (على الأرجح) عند نتنياهو "شفقةً" ولا جزاءً شكوراً على الدعم المطلق والشراكة الكاملة الأميركية الكاملة، التي ساهم في صياغة معطياتها في جريمة الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة، وتوسعة جبهات الصراع في المنطقة. هذا لا يعني أنّ ما يقدمه بلينكن من مزايا وحوافزَ ورشىً سيكون أقلّ ممّا ستقدّمه هاريس أو ترامب، لكنّ، صفحة بلينكن ورئيسه على وشك أن تُطوى بعد أن أعطيا نتنياهو وإسرائيل ما يريدانه من دعم وتواطؤ، أمّا صفحة من يرث إدارتهما أميركياً فهي على وشك أن تبدأ. والمُقبل خير من المغادر، مع أنّ كلهم في الشرِّ غَرْبٌ.