مسلمو تتارستان الروس.. جدل الهوية والسياسة
لا تختلف العاصمة التتارية - الروسية قازان، في مشهدها العام، عن أيّ عاصمة أوروبية أخرى، من حيث التنظيم والترتيب والحداثة والمستوى المتطوّر للمواصلات؛ وإن كان الفرق الوحيد الواضح كثرة المساجد والقباب والمآذن التي تجاور بصورة لافتة للانتباه الكنائس، وتبدو (الكنائس) وكأنّها جزء من الهوية المعمارية والثقافية والمجتمعية العامة.
بدت قازان بمثابة جسر للتواصل الديني والحضاري، كما أرادها الروس، خلال مؤتمر روسيا والعالم الإسلامي في دورته الجديدة في المدينة (19-20 مايو/ أيار 2022)، وقد تزامن ذلك مع ذكرى مرور ألف ومائة عام على دخول سكان المنطقة البلغار في الفولغا الإسلام، بالتزامن مع اجتماع مجموعة الرؤية الاستراتيجية التي تبحث في سبل تطوير قنوات الحوار بين روسيا والعالم الإسلامي. وأقيم معرض قازان إكسبو تحت شعار "حلال"؛ والمقصود توسيع كلمة حلال (تستخدم عند المسلمين في الغرب في المطاعم)، لتصبح شاملة أنشطة وأفكارا ومفاهيم عديدة يمكن أن تجمع الفكرين، الإسلامي والغربي بخاصة الروسي.
كان واضحاً خلال الاجتماع طغيان المظاهر الدينية والحضور البارز لعلماء الدين، من الجانبين، الإسلامي (والعربي) والروسي، من المؤسسات الدينية الروسية عامة، والتتارية بخاصة، فبدأ الاجتماع الرئيس لمجموعة الرؤية الاستراتيجية بحضور نائب وزير الخارجية الروسي وحاكم تتارستان، رستم مينيخانوف، ثم كلمات لرؤساء المؤسسات الدينية الروسية، طلعت صفا تاج الدين وراوي عين الدين (وكلاهما من أصول تتارية)، وبدا الاهتمام الروسي كبيراً بالشخصيات الدينية العربية والإسلامية، من الشيعة والسنة، فضلاً عن وضع حجر الأساس لأكبر جامع في قازان (جامع قازان الكبير).
حضور قوي للهوية الإسلامية، وهي التي لا تخطئها عندما تتجول في أرجاء قازان، وتلتقي بعدد من المسلمين فيها، فتجدهم يفتخرون كثيراً بتاريخهم الإسلامي
توقيت الاجتماع وطبيعته وموضوعاته تعكس حرصاً روسياً على تجسير العلاقات مع المسلمين والعالم الإسلامي، في ظل حالة العزلة التي تحاول أن تفرضها الولايات المتحدة وأوروبا على روسيا، مع الحرب الأوكرانية، لكن ما هو أكثر دلالة أنّ هنالك مشاركة عربية رسمية واضحة، بخاصة من السعودية والإمارات.
ثمّة ما يشكّل ما هو أعمق مما يطفو على السطح؛ وأقصد هنا تحديداً "النمط الديني الجديد"، الذي يتم تكريسه في الجمهورية التتارية، سواء في الداخل التتاري أو في العلاقة بين الجمهورية الإسلامية، التي تحظى بشبه حكم ذاتي، والحكومة الفدرالية الروسية التي تخلت عن ثوب الشيوعية، وارتدت اليوم ثوب القومية الروسية ذات الأعراق والثقافات والديانات المتنوعة والمتعدّدة.
كان ملاحظاً في الاجتماع أنّ هناك حضوراً قوياً للهوية الإسلامية، وهي التي لا تخطئها عندما تتجول في أرجاء قازان، وتلتقي بعدد من المسلمين فيها، فتجدهم يفتخرون كثيراً بتاريخهم الإسلامي، بل ويعرفون عن الكتاب الشهير "رحلة بن فضلان" (الرحالة العربي الذي أرسله الخليفة المقتدر لتعليم أهالي تلك المنطقة الإسلام، فألف كتاباً يعدّ من أشهر الكتب التي تقدم صورة مجتمعية وثقافية عن سكان المنطقة في تلك المرحلة) ويعتزّون بالرموز الإسلامية، فهنالك اعتزاز كبير واحترام وتقدير للشيخ شهاب الدين مرجاني، الذي يعدّ أحد أهم الأساتذة المسلمين هناك في القرن التاسع عشر، كما أنّك ترى حضوراً ملحوظاً في حديث عديدين منهم للإمبراطورة الروسية (ذات الأصول الألمانية في القرن الثامن عشر) كاترين الثانية، لأنّها سمحت للمسلمين هناك بإعادة بناء المساجد، بعد تدميرها منذ القرن السادس عشر.
يجمع النموذج التتاري بين الهوية الدينية والموروث الثقافي والمكتسبات الدينية، وبين البراغماتية السياسية والتوجه نحو نمط من "التديّن الصوفي"
المهم أنّنا أمام نموذج لافت من التدين أو الإسلام يزاوج ما بين الهوية الدينية بوصفها مكوناً تاريخياً وثقافياً وفكرياً ورمزياً وجزءا من الهوية التتارية (تعدّ جزءاً من الهوية الروسية القومية الكبرى) والسياسات العلمانية، التتارية والروسية، ونموذج من التفاعل ما بين التقاليد والحداثة، المساجد والكنائس في جوار الشركات الكبرى والعملاقة.
لا نذهب هنا إلى تقييم أو إصدار أحكام بقدر ما هو الهدف الإشارة إلى هذا النموذج المختلف عن أنماط الإسلام السياسي المعروفة في العالم العربي، أو حتى الإسلام الرسمي الذي له حضور في المساجد والأماكن الدينية، أو حالة الصراع العضال الملحوظ في العالم العربي ما بين الدين والحداثة. ولعلّ المقابلة التي تلحظها في أحاديث بعض التتاريين تكمن مع الشيشان الذين اختاروا، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، الصدام مع روسيا الاتحادية، للوصول إلى الاستقلال الكامل، بينما اختار ساسة تتارستان التفاوض، والحصول على مكتسبات، ما جنّب البلاد حرباً كبيرة ودماراً هائلاً كما حدث في الشيشان. ووفقاً لوجهة النظر هذه، لا يتسم النموذج التتاري فقط في الجمع بين الهوية الدينية والموروث الثقافي والمكتسبات الدينية والاقتصادية والتنموية، بل تضاف إليه البراغماتية السياسية والتوجه نحو نمط من "التديّن الصوفي" المسالم المنفتح. ومن الملاحظ أنّ التصوف هو الصفة الغالبة على رجال الدين الرسميين التتاريين والروس.
لا يوجد تطابق كامل بين النموذجين، التتاري والتركي؛ فهنالك فروق واختلافات عديدة، بخاصة ما يتعلق بالإسلام السياسي، وهو أمرٌ مرتبط باختلاف التجربة السياسية والتاريخية والعوامل المحلية والخارجية بين النموذجين، لكن، في المقابل، هنالك تشابه لافت في نمطٍ يتعامل مع الإسلام بمرونة شديدة في المجالات السياسية، ويبتعد قدر الإمكان عن "الأدلجة" التي طغت في العالم العربي. ويرتكز النموذجان (التتارستاني والتركي) على بناء علاقةٍ تصالحيةٍ بين الهوية الدينية والموروث التاريخي والثقافي والحداثة والاقتصادي، فهل هو نموذج محدود مؤطّر ضمن مربعات جيو استراتيجية وثقافية معينة، أم يمكن أن نجد له انتشاراً وحضوراً أوسع في مناطق أخرى من العالم الإسلامي، وربما العالم العربي؟