مسلسل "برّا وجوّا": السوريون يقتسمون الوجع
كان بمقدورهم أن يتصدّروا أكبر الشاشات العربية، وأن يشاركوا في أهم الأعمال الدرامية ذات الانتشار الواسع، وأن يحلّوا ضيوفا دائمين على القنوات الفضائية، إذ لا تنقصهم الشهرة ولا الموهبة، غير أنهم ضحّوا بذلك كله، بنفوس راضية وضمائر مستريحة، ودفعوا الثمن تشريدا وتهجيرا وحرمانا من أرض الوطن المستباح، وبُعدا جبريا عن الأهل والأحبة. وذلك لمواقفهم المشرّفة في مقاومة الطغيان والاستبداد، وفي الانتصار لحقّ شعبهم في الحرية والعيش الكريم. فعلوا ذلك مستثمرين أدوات التعبير الفني المتاحة لهم، على محدوديتها في شتاتهم القسري.
جمع المبدعين السوريين الأحرارالذين اشتقنا إلى طلاتهم (يارا صبري، نوار بلبل، محمد آل رشي، لويز عبد الكريم) نصٌّ عذبٌ موجعٌ ذكيٌّ لمّاح، أبدعه قلم كاتبة السيناريو ريما فليحان، لمسلسل إذاعي بعنوان "برّا وجوّا" من ثلاثين حلقة متصلة منفصلة، رشيقة، ثرية، عميقة، مضحكة، مبكية، وأحيانا صادمة جارحة، من إنتاج "راديو روزانه". تتوفر منه على قناة يوتيوب، حاليا، 18 حلقة. تمكّنت المخرجة المتميزة، لينا الشواف، من توظيف إمكاناته البسيطة، من مؤثرات موسيقية منتقاة متناسقة مع النص في توريط المستمع كليا بفضاء العمل المذهل، وذلك تحدّ كبير في زمن الصورة الكاسح، وظروف الإنتاج الباذخة لأعمالٍ تافهة وسطحية، وتزيّف الواقع وتحابي السلطة، وتتحايل على المتلقي، وتصرف انتباهه عن ضحالة المحتوى، بمحاولة إبهاره بصريا بالأزياء الفاخرة والديكورات الفخمة والسيارات الفارهة ووجوه الممثلات والممثلين المشدودة اصطناعيا، المتشابهة ملامحهم بفعل مشارط أطباء التجميل.
عرضت ريما فليحان تفاصيل المشهد السوري في الداخل والخارج، عاريا حقيقيا، دقيقا. تناولت تداعيات الحرب التي شنّها نظام قاتل مستبد على شعب عظيم تاق إلى الحرية والكرامة. لم تلجأ إلى الشعارات والكلام المباشر، بل أفسحت للميكروفون أن يسرد الحكاية كما حدثت، من دون مبالغات تستدعيها الدراما أحيانا. سلّطت ريما الضوء، بدقة وبراعة، على واقع الداخل السوري المجحف على غير صعيد، والأثر النفسي الفادح على أبناء سورية المغتصبة، من خلال حكاية عائلة أم لؤي العجوز المصابة ببدايات الخرف (أدّت الدور ببراعة يارا صبري)، وابنها لؤي، طالب طب الأسنان في الجامعة الذي يعمل نادلا في حانة، ليساهم في مصاريف البيت الباهظة مع شقيقته المضطرّة للسفر، حيث يعمل زوجها. ويُبدع نوار بلبل في تأدية دور الشاب السوري المقهور الممزّق المخذول من الدنيا، ومن شقيقه الذي تخلّى عن العائلة، ورتب حياته في أميركا، تاركا المسؤولية على عاتق لؤي، العاجز عن مواجهة ظروف المعيشة الصعبة، من غلاء أسعار وانقطاع مستمر للكهرباء والوقود، واستشراء القمع والفساد والظلم، محروما من الارتباط بحبيبته اللاجئة في دولة أوروبية.
وبالتوازي مع المشهد المظلم الداخل، ومن خلال حكاية عائلة ندى المهجّرة، نطلّ على تفاصيل حياة اللاجئ السوري في المنفى، وما يعترضها من صعوبات ومشاقّ يومية، متعلقة باللغة وفرص العمل وصعوبات الاندماج. يتألق محمد آل رشي، بصوته العميق الحزين، في تجسيد شخصية والد ندى، المحامي الناشط الذي تعرّض للاعتقال والتعذيب، قبل أن يتمكّن من الهرب، لاجئا غير شرعي في البحر، مواجها مخاطر وأهوالا كثيرة، مصطحبا ابنتيه، ندى عازفة الكمان البارعة، طالبة المعهد العالي للموسيقى التي تعمل نادلة في مطعم، وتحاول مواصلة تعليمها الموسيقى (تؤدّي لويز عبد الكريم دورها بإقناع كبير)، وشقيقتها نور طالبة الهندسة التي خسرت سنوات دراستها وبدأت من الصفر. يعاني الأب في المنفى من الغربة والحنين، وعدم القدرة على التأقلم مع الحياة الجديدة، ويعثر، بعد بحث طويل، على وظيفةٍ في محلٍّ لبيع البضائع الشرقية، ويتعرّض لاضطهاد رب العمل الثري السوري الألماني، ما يزيد من إحساسه بالمهانة. وتعتري علاقة ندى ولؤي عثراتٌ كثيرة، بسبب البعد واستحالة لمّ الشمل. .. تفاصيل كثيرة لا يكفي مقال للإحاطة بجوانبها المدهشة كافة.
كل التحية لفريق هذا العمل المختلف. والأمل أن نراه يوما مجسّدا على الشاشة وثيقة مهمة، ترصد، بحرفية عالية، واقعا اجتماعيا وإنسانيا ومعيشيا مريرا، يرزح تحته المواطن السوري في الداخل وفي الخارج، معلقا بصليب الانتظار، فيما يتوزّع الوجع على كليهما بالتساوي!