مسقط رأسك هناك إذ يتعرّض للقصف
إذ تُقصَف غزّة، وهذا يتكرّر ويكاد يصبح مألوفاً، فإن طوفان الصور لا يكون على الأرض، بل في السماء، فعليك أن تتابع الصواريخ إذا انطلقت و"القبّة الحديدية" إذا تصدّت أو أخفقت، ثم هناك الدخان الذي يتصاعَد، ويكون أبيض ويحتاج وقتاً قبل أن يتبدّد. وإذ يحدُث هذا تنتقل الكاميرات إلى الأرض، حيث دخان هائل يتصاعد من إحدى البنايات من دون أن ترى أثراً للناس، فأين ذهبوا؟ هل يختبئون تحت طاولات الطعام؟ وهل لديهم طاولاتُ طعام أصلاً؟ ثم إنك تسأل نفسك: لماذا لا يبنون ملاجئ لهم في تلك البقعة الصغيرة، المكتظة بالسكان، التي هي مسقط رأسك الذي تسقط عليه الصواريخ، فلا تعرف كيف لسكّانه أن ينجوا كل مرّة، ويعودوا إلى حياتهم كأن شيئاً لم يحدُث؟
ثم هناك سيارات الإسعاف التي تنقل الشهداء، والوصف إذ يُدخلهم الجنة، إلا أنه يغض النظر عن أنهم قُتلوا، وأن قاتلهم معروف، وقصفهم بصواريخ دقيقة لم يتوقّف يوماً عن تطويرها لقتلهم بما يُقلّل من خسائره ويزيد من أعدادهم.
وهم أهلك من يُقتل هناك. لم يكونوا في نزهةٍ على البحر فداهمهم تسونامي مدمّر مسح أحياءهم عن وجه الأرض، بل كانوا أطفالاً وشبّاناً وأمهات وآباء مثلنا، نحن الذين نعيش هنا بعيداً عنهم هناك، حيث يُقتلون ويشيّعون موتاهم من دون أن يفقدوا إيمانهم بربّهم الذي يقيمون له الصلوات في عُلاه. لقد داهمتهم الصواريخ وهم في بيوتهم في ملابس النوم. في وطنهم غير بعيد عن حقولهم ومقابر أسلافهم. بين أطفالهم ومعهم. لقد قُتلوا، فجاءت سيارات الإسعاف ونقلتهم إلى المستشفيات التي رأيناها في التغطيات التلفزيونية، من دون أن نرى أحلامهم بموتٍ مطمئن بين أولادهم وأهلهم، وعلى أسرّتهم التي تركوها هناك.
إنهم "هناك"، حيث بلادنا تُقصف على شاشة التلفزة، فتشيح بوجهك فلا قدرة ولا جلَد لديك لرؤية أهلك وقد تحوّلوا إلى كيس الملاكمة، يتدرّب عليه كل سياسي يميني يصعد في إسرائيل. أهلك الذين لا يمثلون أولويةً حتى للإعلام المتعاطف معهم، فالأولوية هي لمديات الصواريخ التي استخدمت، ومقارنتها بالتي استُخدمت في الحرب السابقة، تليها تصريحاتُ السياسيين التي تُشبَع تحليلاً من متحدّثين لا يعرف واحدٌ منهم اسم آخر القتلى ما لم يكن قيادياً. كأن أهلك "هناك" مجرّد فكرة، فمن هم الذين قُتلوا؟ ومن هو هذا الذي يسقط رأسُه على صدره من النعاس، لأنه لم ينم منذ ثماني عشرة ساعة خوفاً من القصف أو ترقّباً له؟ أهو فكرة ليس أكثر.
لا نراه ولا نراهم إلا بعد أن تنتهي الحرب، ولكنهم أهلي، وأعرف أن لا وقت لديهم للحزن، فلا دول مانحة تهبّ لنجدتهم، ولا مشاريع إعمار لترميم بيوتهم وخياطة جروحهم المفتوحة، بل محلّلون ومراكز دراسات تتناسل لترصد صعود حركة الجهاد بعد الحرب على حساب حماس، وأخرى تحلّل تنامي نفوذ اليمين الديني خلال القصف، وكيف أن حرباً تنشب وقتلى يُشيّعون وبيوتاً تدمّر لأن نتنياهو لا يريد إغضاب وزيره إيتمار بن غفير.
وهم يعرفون ذلك. أهلك الذين هناك يعرفون أيضاً أن على الحياة أن تستمر، وأن عليهم أن ينصبوا ما يشبه الخيام على أنقاض بيوتهم، لأن عليهم أن يناموا وأن يأكلوا وأن يبحثوا عن عملٍ لشراء سرير بدلاً من ذاك الذي دُمر، ودفتراً للولد الذي عليه أن يذهب إلى المدرسة في نهاية المطاف.
إنهم أهلك هناك، حيث مسقط الرأس الذي لا ينفكّ يسقط على الصدر مع كل قصفٍ لتلك الأرض الصغيرة، الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم. أهلك الذين يُقتلون إذا كانوا ممن بقوا في غزة، ويُهانون في العالم إذا كانوا ممن غادروها على معابر الجيران العرب، ولا يُعترف بهم إذا عاشوا في تلك الدول، فلا يُمنحون جوازات سفر، بل يقيمون في المؤقّت، ويتنفّسون في الاستثناء، فلا عمل إلا باستثناء، ولا دراسة جامعية إلا باستثناء، ولا علاج إلا إذا تفضل مُحسنٌ أو مدير مستوصف يشعر بالذنب والأسى. أهلك الذين كأن أحداً في هذا العالم كله لا يراهم، وعليهم من قبل ومن بعد أن يؤمنوا بربّهم، وهم يؤمنون به، ويقيمون له الصلوات، وهم يفعلون ذلك في كل وقتٍ وحين.