لماذا تراجعت الصحف الأميركية عن تقاليدها؟

07 نوفمبر 2024

مبنى صحيفة واشنطن بوست في واشنطن (5/6/2024 Getty)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

ثمّة من يتعمّد بخسَ التجربة الأميركية قيمتها، بل ريادتها في مجالاتٍ كثيرة، بتأثير من المواقف من سياسات هذه الإدارة الأميركية أو تلك، وهذه حماقةٌ أعيت من يداويها.

من تلك، ريادتها في مجال الإعلام، وتكريس تقاليد خاصة بها، تختلف عن وسائل الإعلام في العالم كله، ففي الولايات المتحدة فقط اعتُبر التخلي عن مفهوم الحياد، وهو غائم ولا معنى محدّداً له، أمراً محموداً، بل واجباً من الناحية الأخلاقية، في قضايا كثيرة، منها مثلاً أن تجتمع هيئة تحرير "نيويورك تايمز" وتعلن تأييدها غير المشروط لباراك أوباما عندما كان مرشّحاً للانتخابات الرئاسية في دورتين متتاليتين، أو أن تصف "واشنطن بوست" وشقيقاتها الرئيس الراحل معمّر القذافي بالديكتاتور، بحيث تسبق هذه الصفة اسمَه كلما ورد غالباً وما أمكن في مقال أو تغطية إخبارية.

أنت لا تستطيع أن تفعل هذا في وسائل إعلام كثيرة في العالم، وفي منطقتنا ستُرمى بالتحيّز إنْ لم تصدمك سيارة في الليل أو تجد نفسك في السجن "حفاظاً على حياتك". والانحياز مفهوم محدّد على خلاف الحياد، وهو ما يفسّر شيوع مفهوم النزاهة، وهذا مفهومٌ أخلاقي، بدلاً من الحياد أو الموضوعية، أحدُهما أو كلاهما، فمن النزاهة أن تصنّف قادة الدول والأحزاب والجمعيات حسب ممارساتهم وأيديولوجياتهم إذا وجدت، فأنت لا تشتم الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون عندما تصفه بالديكتاتور، فهذا هو وهذه أفعاله. ولا تتطرّف عندما تُلحق اسم الرئيس السابق دونالد ترامب بصفته مليارديراً في تحقيق استقصائي تجريه، فهو كذلك حتى لو جاء من يقرّعك ويخبرك أنك بهذا تُوجّه القارئ وتجعله يتخذ موقفاً سالباً من الرجل ومن سياساته، خاصة إذا كان هذا القارئ من الطبقات العاملة ومحدودة الدخل، لكنّ نقداً كهذا يتجاهل أن هذه هي حقيقة ترامب، ومن النزاهة تذكير القارئ بها، بينما قد يكون نفيها أو عدم التطرّق لها مسعى لتجميله، وهذا تضليلٌ لا يليق بالصحافة أخلاقياً.

في حقبة الرئيس المصري الراحل حسني مبارك المديدة (نحو 30 عاماً)، كان مسؤولو الإعلام في القاهرة لا يخفون استياءهم، وخاصة في العقد الأخير من حكمه، من تعبيراتٍ صحافيةٍ متكرّرة عن نظام يعمل على توريث الحكم، رغم أن مبارك كان يسعى فعلاً إلى ذلك، بل كان من أسباب إطاحته. ونظراً إلى نفوذ القاهرة في حينه داخل المنظومة العربية، فإن تقارير وكالات الأنباء العالمية الكبرى كانت تخضع لتحريرٍ قاس، يحذف كل إشارة إلى مسعاه توريث الحكم، فهل هذه من النزاهة في شيء؟

ندين بتوسيع قوس النقد وسقوف الرأي لوسائل الإعلام الغربية، وتحديداً الأميركية التي لم تكن تقيم وزناً لأحد، سواء حاز سلطة أو ثروة، إذا وقع تحت سكاكينها، وهو ما بدأ يتغيّر للأسف في سنوات صعود ترامب. فلأول مرة تتخلى صحف أميركية كبرى عن تقليد يعود إلى نحو 160 عاماً، تعلن بموجبه تأييدها لهذا المرشّح للانتخابات الرئاسية لا ذاك، في مقالاتٍ تحمل توقيع مجالس تحرير هذه الصحف، فمن كان يتخيّل أن تتخلى صحيفة في وزن واشنطن بوست عن تقليدٍ كهذا؟

إنها حُمّى ترامب، إرهابُه إذا شئت، أو استغلاله النفوذ بالحد الأقصى، وتلويحُه الدائم بالعقاب والتشهير، ما يجعل أصحاب الصحف الكبرى، وهم أثرياء في نهاية المطاف، وليسوا رسل محبّة وحرّيات رأي، بل أصحاب مصالح يحرصون عليها، ويضغطون ويتدخّلون في السياسات التحريرية لحمايتها، وهذا جديد طرأ في الولايات المتحدة، ويتغطّى بالحياد، والأخير مفهوم غائم، ويعني هنا الانحياز إلى ترامب بعدم تأييد منافسته، ومصادرةً للتوجّهات التحريرية التي كانت مصدر فخرٍ لهذه الصحافة عبر تاريخها، إذ لم يسبق أن كان تدخّل أصحاب الصحف بمثل هذه الفجاجة، كما في حالة "واشنطن بوست" التي يملكها جيف بيزوس، ما تسبّب في استقالات في الصحيفة وفي شقيقات أُخر لها، مثل لوس أنجليس تايمز، فكيف يستقيم أن تنتقد ترامب في صحيفتك طوال ثماني سنوات، وعندما يأتي الوقت المناسب لدعم منافسته للحيلولة دون وصوله إلى البيت الأبيض، تتراجع عن سياساتك التحريرية هذه بمزاعم لا تُقنع أحداً.

أليست هذه انتكاسة للديمقراطية، وبدايات هبوب رياح الديكتاتورية في بلاد رفعت سقف الصحافة لا داخل حدودها فقط، بل في العالم كله؟

زياد بركات
زياد بركات
قاص وروائي وصحفي فلسطيني/ أردني، عمل محررا وكاتبا في الصحافتين، الأردنية والقطرية، وصحفيا ومعدّا للبرامج في قناة الجزيرة.