مستقبل الوساطة التركية في حرب أوكرانيا
تواصل كل من روسيا وأوكرانيا حشد قواتهما في إقليم دونباس، لما يُعتقد أنها ستكون معركة كبيرة وحاسمة، ستُحدد مستقبل الصراع الراهن. في ضوء الإخفاق العسكري الروسي الذي لم يكن متوقعاً في الأسابيع الماضية من الحرب، سيكون من الصعب التكهّن مسبقاً بنتائج معركة دونباس المرتقبة، لكنّ النتيجة الوحيدة التي يُمكن استخلاصها الآن أنّ مفاوضات السلام بين البلدين لم يعد لها أي أهمية في الوقت الراهن. عندما اجتمع الوفدان، الروسي والأوكراني، في إسطنبول نهاية الشهر الماضي (مارس/ آذار)، كان قرار روسيا تقليص عملياتها العسكرية في العاصمة كييف ومحيطها، ثم الانسحاب من شمال أوكرانيا لاحقاً بمثابة أول تقدّم فعلي في مسار المحادثات التي ترعاها تركيا. لكنّ الآمال بتحقيق السلام سُرعان ما تبدّدت مع اتضاح أنّ الانسحاب الروسي لم يكن لدفع مفاوضات السلام، بل لإعادة تجميع القوات للهجوم على دونباس. في الفترة التي أعقبت اندلاع الحرب، كان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، يُجري باستمرار محادثاتٍ هاتفيةٍ مع نظيريه الروسي والأوكراني لإعطاء زخم للمفاوضات. مع ذلك، فإن الجهود التركية لم تستطيع تحقيق خرق أكبر من جمع وزيري خارجية البلدين في أنطاليا ثم استضافة مفاوضات إسطنبول.
على الرغم من صعوباتٍ كثيرةٍ تواجه مساعي الوساطة التركية، فإنّ مفاوضات إسطنبول حققت أخيراً بعض التقدّم على صعيد فتح نقاش بين موسكو وكييف بشأن مسودة معاهدة سلام. فمن جانب، أشار الانسحاب العسكري الروسي من شمال أوكرانيا إلى أنّ موسكو وصلت إلى قناعة بصعوبة تحقيق الأهداف الكبرى للحرب، إطاحة حكومة الرئيس زيلينسكي واستسلام الجيش الأوكراني. ومن جانب آخر، بدت كييف أكثر استعداداً للقبول بتسويةٍ سياسيةٍ تتضمّن بعض التنازلات الجوهرية من جانبها. ففي المقترح الذي قدّمه الوفد الأوكراني للجانب الروسي، تضمن تبنّي أوكرانيا وضع الحياد مقابل حصولها على ضماناتٍ أمنيةٍ دولية لحمايتها من أي هجوم روسي جديد عليها في المستقبل. كما تعهدت بعدم الانضمام إلى تحالفات أو استضافة قواعد لقوات أجنبية على أراضيها. لكنّ المعضلة الرئيسية في المحادثات تمثّلت في مستقبل شبه جزيرة القرم وإقليم دونباس، فبينما اقترحت كييف فترة مشاورات مدتها 15 عاماً بشأن وضع القرم والدخول في مفاوضات على مستوى القادة للتوصل إلى تسويةٍ بشأن دونباس، تتمسّك موسكو باعتراف أوكرانيا بضمها شبه جزيرة القرم واستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك.
النهج الدبلوماسي في المفاوضات مصمم لتحقيق سلام مستدام وطويل الأمد، ما يعني أن أي اتفاق سلام سيكون غير مكتمل إذا لم يعالج القضايا الأخرى
مع اتجاه روسيا إلى حسم عسكري لمسألة دونباس، فإنّها ستُحاول فرض أمرٍ واقع لإجبار كييف على القبول بشروطها في أي اتفاق سلام. على الرغم من أنّ موسكو أبدت تعاوناً مع مساعي الوساطة التركية، فإنّ التحوّل الروسي نحو التركيز العسكري على دونباس يفيد بأنّ أولويات بوتين لا تزال تحقيق مكسب عسكري كبير يُساعده في إعلان النصر. بالإضافة إلى عقبة دونباس والقرم، هناك عوامل أخرى تعقّد من فرص التوصل إلى اتفاق سلام لإنهاء الحرب. أولاً، لدى موسكو وكييف تعريف مختلف لأي سلام بينهما، فبينما ترى موسكو أنّ السلام يعني استسلام أوكرانيا لمطالبها، فإنّ كييف تنظر إليه عودة إلى الوضع الذي كان سائداً قبيل الحرب مع الدخول في مفاوضات حول المناطق المتنازع عليها. ثانياً، أدّى رفع الدول الغربية مستوى الأسلحة التي قدّمتها أخيراً إلى أوكرانيا، ومنها منظومات دفاع جوي ومدفعية متطوّرة استعداداً لمعركة دونباس إلى دفع كييف لرفع سقف شروطها في عملية المفاوضات. ثالثاً، على الرغم من أنّ الحرب الحالية تتعلق بروسيا وأوكرانيا، فإنّ الغرب ينخرط بفعالية فيها، ولديه مصالح في أيّ اتفاق سلام. ومن غير المرجّح أن يدعم اتفاق سلام غير متوازن، ولا يضع حداً لطموحات بوتين إزاء مستقبل وجود حلف شمال الأطلسي (الناتو) في دول أوروبا الشرقية.
علاوة على ذلك، فالنهج الدبلوماسي في المفاوضات مصمم لتحقيق سلام مستدام وطويل الأمد، ما يعني أن أي اتفاق سلام سيكون غير مكتمل إذا لم يعالج القضايا الأخرى المرتبطة بشكل غير مباشر في هذا الصراع، سيما مسألة الهيكل الأمني الأوروبي. لقد سبق لكييف والانفصاليين المدعومين من روسيا أن أبرموا اتفاقاتٍ لوقف إطلاق النار المعروفة بمينسك 1 ومينسك 2 في 2015. مع ذلك، لم ينجح هذان الاتفاقان في منع تجدّد الصراع حالياً، لأنهما قيدا من طموحات موسكو بشأن رؤيتها لمستقبل أوكرانيا، ولأنّ كييف لم تكن مستعدة لتنفيذهما بالكامل، كونهما يمنحان روسيا حق التدخل في تقرير قضايا كبيرة لأوكرانيا، كمسألة الانضمام إلى حلف الناتو.
ساعدت مساعي الوساطة أنقرة في تبرير إبقاء علاقتها مع موسكو أمام الغربيين والامتناع عن الانخراط في سياسة الضغوط القصوى على موسكو
في الوقت الراهن، تضع روسيا أولوياتٍ لا يبدو أنّ إبرام اتفاق سلام مع أوكرانيا من ضمنها. ويُمكن تلخيص هذه الأولويات بالسيطرة على مدينة ماريوبول الساحلية لإنشاء رابطٍ برّي بين دونباس وشبه جزيرة القرم، بالإضافة إلى توسيع حدود جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك التي اعترفت باستقلالهما، فضلاً عن وجود عسكري دائم في إقليم خيرسون لضمان إمدادات المياه العذبة إلى القرم. بالنسبة لموسكو، ستكون هذه المكاسب كافية لإعلان الانتصار في الحرب. انطلاقاً من ذلك، ستحدّد نتائج معركة دونباس شكل أي اتفاق سلام في المستقبل. على صعيد آخر، ستكون طريقة وضع أوكرانيا المحايد ذات أهمية كبيرة بالنسبة لموسكو وكييف. من الواضح أنّ أوكرانيا تريد تقليل أي قيودٍ على سيادتها منصوص عليها في أي اتفاقية حياد محتملة، بينما ستحاول روسيا فرض قيود إضافية على الأسلحة وإضعاف الضمانات الأمنية الأجنبية لأوكرانيا. ومع ذلك، من السابق لأوانه معرفة الإطار الذي قد يظهر خصوصا مع استمرار الحرب. من المرجّح أن تكون المعركة من أجل شرق أوكرانيا حاسمة بالنسبة للنتيجة الإجمالية للحرب والمواقف التفاوضية للأطراف.
بانتظار انتهاء معركة دونباس المرتقبة، والتي قد تكون طويلة الأمد، ستواصل تركيا على الأرجح مساعيها التفاوضية بين الجانبين. مع ذلك، يزيد هذا الوضع من الضغوط على موقف أنقرة المتوازن في الصراع. كلما طال أمد الحرب زادت الصعوبات على تركيا في الحفاظ على حيادها. لقد ساعدت مساعي الوساطة أنقرة في تبرير إبقاء علاقتها مع موسكو أمام الغربيين والامتناع عن الانخراط في سياسة الضغوط القصوى على موسكو. لكن مشروعية الحياد تتضاءل يوماً بعد آخر، ما يجعل من الصعب على أنقرة مواصلة التمايز عن الغرب في الموقف من موسكو. لن يؤدّي إخفاق جهود الوساطة في دفع أنقرة إلى تبنّي خياراتٍ أخرى في الصراع، بالنظر إلى أن حيادها يستمدّ مشروعيته بالدرجة الأولى من مصالحها مع كل من روسيا والغرب، إلّا أنها قد تجد نفسها، في نهاية المطاف، ذات أهمية أقل بالنسبة للغرب وروسيا، ما يجعل من الصعب عليها توظيف وضعها المهم في جغرافية الصراع لضمان مصالحها فيه، وتقوية موقفها في العلاقات مع روسيا والغرب في المستقبل.