مستجدّات تتجاوز راهن الحرب

02 نوفمبر 2023

رجل وطفلته في اعتصام في غلاسكو في اسكتلندا يطالب بوقف إطلاق النار في غزة (1/11/2023 Getty)

+ الخط -

ربما يشكّل حجم التوغل الإسرائيلي في شمال قطاع غزّة، مع تواتر أنباء عن مفاوضات في بعض العواصم من دون نتائج معلنة، مؤشرا إلى استمرارية الحرب وقتا أطول، فإسرائيل ترى نفسها ملزمة بحربٍ تصفها بـ"حرب البقاء"، أو أنها تستغلّ هذه الظروف بوصفها فرصة تاريخية، للوصول إلى التغيرات الكبيرة التي تحلُم بها، رغم حجم الأكلاف الباهظة في أرواح المدنيين من النساء والأطفال، وهي غير مهتمّة أبداً لاتهامها بجرائم الحرب أو ضد الإنسانية، ولا تأبه بنداءات وقف الحرب. ويتحدّث عديدون من قادتها عن "حرب طويلة" جداً. تقول حركة حماس في الطرف الآخر إن إسرائيل تتراجع وتتقهقر، وإن المقاومة في حالة صعود، وتقدّم في ذلك شروحا عن أوضاع سابقة وأخرى مستقبلية، وتتحدث عن خطً بياني لتفسير أقوالها. وفي المحصلة، يُقتل مزيدٌ من المدنيين، وهذه الحرب هي ضدّ كل ما له علاقة بالعمران البشري وإمكانية البقاء للبناء من جديد.

إذا كان هدف حكومة الاحتلال هو القضاء النهائي على حركة حماس وتدميرها، فإن الجيش الإسرائيلي يجد نفسَه محبطاً في ترجمة هذا الهدف إلى أرقام وحقائق واقعية قابلة للتحقيق، ربما يكون بمقدوره تحجيم كبير لدور "حماس"، السياسي والعسكري والأمني، لكن قضية القضاء النهائي عليها أمرٌ في غاية الصعوبة؛ فـ"حماس" أولاً تأصلت في نفوس جزء كبير من أبناء المجتمع المحلي في فلسطين، وبل في دول عربية أخرى أيضا، وجذر التأصيل فكري - نفسي أكثر من كونه انتسابا إلى مجموعة عسكرية. والفكرة لا تموت، كما يرد في السرديات الشفاهية، والخوف أن يحمل الجيل الجديد البديل عن "حماس" نزعات عنفية وانتقامية أكثر. وإذا كان رهان تل أبيب أن العمل الثقافي والفكري والضخّ المالي سيتكفّلان بتغيير السلوكيات والذهنيات. رُبما كان ذلك أمراً مجانباً للصواب؛ فالقواعد الاجتماعية تنظر إلى إسرائيل غازية ومحتلة، وهذه بحد ذاتها سلاحٌ من الصعب تدميره. لكنهم (الإسرائيليين) يُمكنهم تقليص قوة حركة حماس، وإضعاف قدراتها الصاروخية والطائرات المسيّرة.

 إذا كان هدف حكومة الاحتلال القضاء النهائي على حماس وتدميرها، فإن الجيش افسرائيلي يجد نفسَه محبطاً في ترجمة هذا الهدف إلى حقائق

إضافة إلى ذلك، أن البنية التحتية المخيفة للأنفاق في قطاع غزة بنيت بشكل مميز على مدى سنوات كثيرة، وهي تشكّل مستوى تحدّ عميقا وتعقيدا مخيفا لجنود الجيش الإسرائيلي، الذين على الرغم من أنهم مدرّبون بشكل مميز على حرب الشوارع والأنفاق، ويمتلكون أسلحة فتّاكة ومعدات نوعية للتعامل مع تلك الحالات والأزمات، ولكن نوعية الأنفاق وطولها وعمقها وضيقها وطوابقها تسهل للمقاتلين في حركة حماس العيش فيها والانطلاق منها للقتال وتخزين أسلحتهم الاستراتيجية. ومن الصعب توقع ما ينتظر الإسرائيليين من تلك الأنفاق، عدا عن ورقة الرهائن.

وإذا كانت تل أبيب تلوّح بفتح جبهة مع حزب الله، إلا أنها في الواقع لا تتمكّن من إدارة أكثر من جبهة عسكرية، بما سيكلّفها من ضغط سياسي هائل على الحكومة، وهدر في الواردات المالية وإجهاد قدرات جيشها، خصوصا أن تلك الجبهة إذا فُتحت ستضع حزب الله آخر انعطافه لها، إما البقاء أو ضربة في عمق حجمها ونشاطها، وإن ليس في مقدور الحزب منع إسرائيل من حصار حركة حماس وقطاع غزّة، لكن فتح تلك الجبهة سيعني أن لدى حزب الله القدرة على التأثير على طريقة اجتياح إسرائيل القطاع.

الغرب وأميركا مصرّان على الالتحاق بالرواية الإسرائيلية، لكن موقف الصين يخلّ بتوازنات القوى، وهي التي لم تكن تخرُج عن حيادها في حروب وأزمات كثيرة، ومنها أخيرا الحرب الروسية على أوكرانيا، فقد اتخذت بكين موقفاً محايداً، لكنها انحرفت عن مبدئها في السياسة الخارجية في الحرب الإسرائيلية الراهنة على غزّة، متضامنة مع غزّة، وداعية إلى وقف إطلاق النار، ومنتقدة العنف الإسرائيلي الذي قالت إنه تجاوز حدود الدفاع عن النفس، كما قال وزير خارجيتها وانغ يي، فبكين خائفة من تداعيات حرب غزّة على جرّ أميركا والصين إلى نزاع إقليمي خارج منطقة المحيط الهادئ مباشرة، وانخراط الصين في الصراع والتخلي عن حيادها، سيكون وارادً إذا ما شاركت أميركا بشكل مباشر. والسبب ما ستُفرزه الحرب من ديناميكياتٍ جديدةٍ للمنطقة، وتأثيراتها الإقليمية، عدا عن المنافسة الجيوسياسية بينهما على تلك التغيّرات.

لا بوادر للحلول، وخصوصا أن "حماس" وإسرائيل غير قادرتين على الحسم النهائي أو تقديم مقاربات وحلول جذرية لإيقاف الحرب

لا تؤيد الصين أهالي غزّة ولا تل أبيب. إنها تدعم حقوق الفلسطينيين وتدخل في حوارات واتفاقات تطوير السلاح والتكنولوجيا مع إسرائيل. إنها ترفض وجود شرق أوسط بهيمنة من طرف واحد فقط، وتصرّ على التوازن بين القوى الإقليمية متعدّدة الأقطاب حلّا وحيدا للاستقرار. وفي العمق، تخشى الصين على حجم إمدادات النفط إليها خوفاً على اقتصادها من الانحدار المريع، فهي تستورد قرابة 53.6% من إجمالي وارداتها النفطية، بقيمة 365.5 مليار دولار من الخليج، وحجم التبادل التجاري الصيني - الإيراني لا يتحاوز 6% من إجمالي واردات الصين من قطاع النفط، وهو لا يساوي شيئاً أمام المصلحة الصينية في الخليج، لهذا هي تسعى إلى استقرار المنطقة مهما كلف الثمن.

الدافع الثاني للصين حماية شراكتها مع سورية، خصوصا بعد الاتفاق الثنائي الجديد ضد التحولات العالمية في الشرق الأوسط، وارتفاع حظوظ الصين لتكون أول فريق لإعادة الإعمار في مرحلة ما بعد النزاع، وملء الفراغ الاقتصادي في سورية. ورُبما تحلم بكين في تشبيك البنية التحتية لكلّ من أنقرة وبغداد عبر دمشق، لتكون ورقة تحوّل ضخم في الاقتصاد الأوراسي، خصوصا أن العراق شريك تجاري مع الصين، وغنيّ بالنفط وذو حدود برّية واسعة مع سورية، وتركيا تشكّل قوة أوراسية عظيمة، وتصل إلى أوروبا. إضافة إلى نسبة صادرات بكين بقرابة 20% إلى الضفة الغربية وإدخال اللغة الصينية إلى نظام التعليم المدرسي المحلي. وكتلة الشركاء الجدد للصين في الشرق الأوسط، بدءًا من بغداد مروراً بدمشق وانتهاءً بالسلطة الفلسطينية، وشراكتها القديمة مع إيران، ومصالحها في الخليج، كُلها معرّضة لأن تصبح ضحية للحرب، وخصوصا أن الغالبية العظمى من مصالحها هي في البنية التحتية وإمدادات النفط، وهي عوامل كفيلة بتشكيل رعب كبير لبكين، واضطرارها للعب دور تهدئة إلى حين إيجاد توازن أو سلام بين الطرفين.

تلقت إسرائيل ضربة كبيرة على غير صعيد، الهيبة والمكانة والرهائن والقتلى

في الوقت الحالي، وأمام هذا التعقيد، لا بوادر للحلول، وخصوصا أن "حماس" وإسرائيل غير قادرتين على الحسم النهائي أو تقديم مقاربات وحلول جذرية لإيقاف الحرب. من واجبنا التعاطف والاصطفاف إلى جانب المدنيين والنساء والأطفال، ومن حقّنا التساؤل عن غياب سؤال اليوم التالي للعملية العسكرية التي قامت بها "حماس". رُبما لم تقدر حجم ردّة الفعل الإسرائيلية، أو ظنّتها كسابقاتها، اشتباكات وقتل وهجمات ثم هدنة ويليها تبادل للأسرى، لكن رد الفعل الإسرائيلي جاء بحربٍ مهولة ومجنونة وساحقة، على مبدأ كيف حصل ذلك وكيف لحماس أن تفعل ذلك.

وكان لحماس أن تعي أن الحكومات الإسرائيلية لا تهتم كثيرا لقضايا حقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية، وتوقّف الحرب من دون نصر إسرائيلي كبير سيفتح أبوابًا لن تغلق بسهولة على نتنياهو، خصوصا بشأن حجم الاختراق الأمني. وما بين غياب سؤال اليوم التالي وسؤال كيف حصل ذلك، يُمكن طرح سؤال آخر: هل من الممكن للطرفين الإعلان عن هدنة أو توقف العمليات؟ أعتقد جازماً أن الجواب هو لا، فالجانب الفلسطيني تكبّد خسائر كثيرة في الأرواح، من الأبرياء والمدنيين، وكذلك من البنية التحتية والمنتسبين للفصائل المسلحة، أو لنقل إن غزّة مُدمّره ومُبادة. وتلقت إسرائيل ضربة كبيرة على غير صعيد، الهيبة والمكانة والرهائن والقتلى، وهل استمرار الحرب سيُنسي الإسرائيليين ملفات الفساد والفشل الاستخباراتي وحجم الخسائر في الأرواح ومشهد المدنيين وهم يهيمون في صحراء النقب خوفاً وهرباً؟ أعتقد جازماً أن الناس والمجتمع المحلي لن يغفرا لكلا الطرفين ما فعلاه، ولن ينسوا ما تعرّضوا له من نيران الطرف الآخر، وكلا الطرفين يبحثان عن حسم نهائي، أو أنهما سيفقدان الكثير من أحجامهما الشعبية على صعيد القيادات وأدوارهم في هياكل إصدار الحكم وصناعة القرار، من دون القول إن "حماس" ستنتهي فكرةً، أو أن إسرائيل ستزول من الخريطة.

C7598B9E-9D58-429F-8BD9-3355DA871B09
C7598B9E-9D58-429F-8BD9-3355DA871B09
شفان إبراهيم
شفان إبراهيم