مسار الطائرة ومسار الغواصة
في الفضاء الإلكتروني، كانت الشعوب العربية تتنابز بالمسارات، فريق يحتفل بأن الطائرة المنطلقة من الكيان الصهيوني إلى المغرب الشقيق، حاملةً على متنها المحتفلين باستئناف التطبيع الحار بين الطرفين، لم تمر بسماء بلاده، كما في حالتي الجزائر وتونس .. وفريق آخر يرد بأن ذلك ليس دليل نجاة من عار التطبيع الذي يحاصر الجميع، وأنها مسألة وقت.
الجزائريون يفاخرون بأن الطائرة لم تعبر أجواءهم، والتونسيون يحاولون إثبات أنها لم تلامس سماءهم، والكل يتبرّأ، ويبتهل إلى الله ألا يؤاخذنا بما فعله الحكام منا .. جيد أن الشعب العربي لا يزال وفيًا للخرائط وللقيم وللحقوق والعدالة، فهذا معناه أن الدم لا يزال يجري في العروق، وأن ما بين الشعوب العربية وحاكميها بعد المغرب عن المشرق.
دعك من هؤلاء المطبّعين بالأمر، أو أعضاء فرقة المسرح الإماراتي البحريني الإسرائيلي الموحدة، الذين يقدّمون عروضهم الموجهة لإهانة الذات العربية، وتصوير الوضع أمام الجماهير، على غير الحقيقة، وكأن كل الإمارات وكل البحرين "تصهينت وتأسرلت"، وانتهى الأمر .. هذا أسلوب اعتيادي معروفٌ في عالم التسويق، أو بالأحرى ترويج أصناف من العقاقير المخدّرة، المدمرة للوعي، والقاتلة للضمير، بما يبدو معه وكأن الكل يحبونها ويتعاطونها.
إنهم يغزون الوجدان العربي بالمقاطع المصوّرة، فمن ناحيةٍ يسحقون عقل الجماهير لكي تسلم بأن التطبيع قدرها المحتوم. ومن ناحية أخرى، يشعلون نيران الشعوبية والشوفينية والطائفية، بين أبناء الوطن العربي، فيما يضحك الصهيوني من بعيد، حيث يقف وفي يده كميات من وقود الفتن.
يعربد التطبيع في السماء العربية، فتحلق طائراته فوق الخليج، وها هي الآن تعبر المحيط. ولكن الأمر مختلفٌ على الأرض، إذ لا تزال الشعوب تأبى خيانة فلسطين، وتسخر من منطق المطبّعين، وتبصق على كل الروايات والمبادرات والمبررات المطروحة .. وتتذكّر فلسطين.
ليست مصادفةً أن طائرات التطبيع تعجز، حتى الآن، عن استعمال أجواء البلاد التي لا تعادي الربيع، فلم تمر بتونس أو الجزائر، لكن الأهم أن الشعبين في البلدين الشقيقين كانا يتابعان رحلة الطائرة لحظةً بلحظة، حتى هبطت في المغرب، أو بالمغرب، ثم احتفلوا بنظافة سمائهما، فيما بقي المطبّعون المحترفون يمنون النفس بأن يكون العار قد طال الجميع.
على أن العار لم يكن فقط مرسومًا بخطوط مسار الطائرة، بل أن عارًا أكبر قد مرّ من دون أن يستفز أحدًا، إذ عبرت غوّاصة حربية تابعة للكيان الصهيوني، قناة السويس، بحسب القناة الإسرائيلية العامة "كان 11"، والتي نقلت عن مصادر استخباراتية عربية إن غواصة إسرائيلية عبرت قناة السويس بشكل علني في البحر الأحمر، باتجاه الخليج العربي، في رسالة تهديد إسرائيلية واضحة لإيران، إذا قرّرت الأخيرة الرد على عملية اغتيال العالم الإيراني محسن فخري زادة، بعد أن كانت قد اتهمت إسرائيل بالمسؤولية عن عملية اغتياله.
أنت هنا بصدد إمعانٍ في إهانة التاريخ وانتهاك الذاكرة .. القناة التي كانت محور حروب مصر من أجل استقلالها الوطني وحرّيتها، ورمز انتمائها العربي المقاوم لاستعمارها واستعمار فلسطين، وعنوان البطولات والتضحيات المبهرة لشهداء الحروب ضد العدو الصهيوني، ها هي تتحوّل إلى أداة، بالإيجار، في يد هذا العدو، يستعرض فيها قدراته العسكرية، ويوجّه منها رسائله، بأنه صار له في مصر مرتكز استراتيجي يستخدمه وقتما يشاء لفرض نفوذه على المنطقة.
القناة التي مات في عمليات حفرها 120 ألف مواطن مصري، وتعرّضت مصر لعدوان ثلاثي من إسرائيل وفرنسا وبريطانيا عام 1956 لأنها قرّرت تأميمها، وخاضت حرب الثلاثين عامًا دفاعًا عنها، ها هي على يد العسكري الذي تحبّه إسرائيل، وتبذل كل ما في وسعها لتأمين بقائه في حكم مصر، تتحوّل إلى ممر رخيص ومتاح ومستباح في أي وقت لغواصاتها وبوارجها، تستعمله وقتما وكيفما شاءت.
تطبيع في الهواء وتطبيع في الماء، لكن ذلك كله يبقى شأنًا يخص "عرب إسرائيل" الجالسين على عروش الحكم العربية، بينما لا يزال "عرب فلسطين" من الخليج إلى المحيط، يحملون في قلوبهم يقينًا بأن العدو اسمه إسرائيل، وأن فلسطين عربية.