مساحات الفراغ في حياة روسّو
لسنا هنا في معرض ترجمة حياة جان جاك روسو، نبي العقد الاجتماعي، وأبرز آباء التاريخ المعاصر للفقه الدستوري، وحماية الإرادة العامة للشعوب، في أوروبا، وهي فلسفة ممتدة التأثير إلى الغرب الجديد، أي مستعمرات أميركا الشمالية وأستراليا ونيوزيلندا. ولكننا نحتاج لكي نتوقف بالضرورة عند حياته الشخصية، والتي تقرّبنا أكثر، إلى مساحة فهم لحواراته مع ذاته، ومع قرّائه، وهو يسعى إلى تحرير عقده الاجتماعي 1762، فبعض زوايا الجدل والتساؤلات هي، في الأصل، قضايا غير محسومة لدى روسّو، أو مرجّحة من دون وضوح، وهو ما يعيد طرح التعامل مع عقده الاجتماعي، من خلال ما يكرّر الإيحاء له بنفسه في تساؤلاته، ثم يحاول أن ينتخب ما يميل له رأيه أو بحثه أو حتى شعوره المزاجي أحياناً، فالإنسان أمام كمية هائلة من البنود التي تبرز لديه، حتى مع كونه فيلسوفاً، قد لا يقف على قاعدة يقينٍ حتمي، في شرح أرضية الفهم لأمور أبسط من أزمة الحياة الاجتماعية والدستورية، التي عانت منها أوروبا، وانحطّ مجتمعها في الدركات التي قطع بها روسّو. فكيف وهو يغوص في تراث تاريخي يعتمد على جغرافيا محدّدة، ومنظور رؤية يقتصر على رحلة الإمبراطورية الرومانية وإسبرطة وجمهورية البندقية، وبعض ما يضاف عليها من تاريخ الأمم الاجتماعي والسياسي. وهذا يعني ضرورة العودة إلى مراجعة أرضية التأسيس والاستدلال لروسّو، ثم النظر في صحة ما استدلّ به ثم دقّة الدلالة فيه، وأنت هنا أمام تشريعاتٍ تؤسّس لدول، وعقد اجتماعي ينخرط تحته الشعب، بكل تعدديته، وإذا كانت هناك أصول قانونية يراجعها خبراء الفقه الدستوري، حين يرد لبسٌ أو تضادٌّ أو اعتراض عن مادة من المواد، فإنّ مهمة أصل التقعيد الفلسفي لهذا التشريع أهم، فهو مسارٌ لا يجوز التخلي عنه، بدعوى تميّز هذا الفيلسوف أو ذاك.
التاريخ الفلسفي الغربي، الذي وإن وجدت فيه اختلافات، لكنه متقارب أو متّحد في أصول الرؤية
والحق هنا يقال إنّ عقل روسّو كان ماكينة ضخّ متدفقة، لتحليل تصوّراته عن التاريخ ومآلات الأحداث العالمية، وكان يجرّف الأرض وكلّ مشهد من حوله، ليصل إلى حقيقةٍ يَعبر بها إلى الفصل الدستوري المتعلق بمستقبل التعاقد الاجتماعي، والذي يكوّن مجموعُه لائحة التقاضي العليا للفصل في ما بين الدولة والمجتمع، وفصل السلطات وضمان عدم تناقضها. ولكن هذا الجهد التاريخي ينطلق، أيضاً، من رؤية عاشها روسّو في حياته بين سويسرا وفرنسا، وبين النوافذ التي أتيحت له، فلو كان هناك مساحة غبش، أو ثقب فيها، ظنّه روسّو جدول عبور لفكرته، فإنّ هذا العجز سيؤثر على حتميات رؤيته، في شرح قواعد الاشتباك بين السيد المطلق، الذي يعني به روسّو الإرادة العامة للمجتمع، والأمير أو الحكومة الممثلة للسلطة التنفيذية، ثم الوسيط بينهما، وهي الهيئة الاشتراعية، التي كان روسّو يرجع فيها كثيراً إلى النماذج الثلاثة التي ذكرناها من دول التاريخ.
ونستدعي هنا، هذا الركن من المنظور العام لرحلة روسّو، لنتبيّن بعض المفاصل التي قد تكون صغيرة، لكنّها مهمة لتحديد موضع الاتفاق أو الاختلاف مع العقد الاجتماعي لروسّو، ونحن ننطلق من مرجعية مختلفة عن التاريخ الفلسفي الغربي، الذي وإن وجدت فيه اختلافات، لكنه متقارب أو متّحد في أصول الرؤية، منذ انطلاقة الفلسفة الغربية المعاصرة، التي تزامنت مع عهد التنوير.
رؤية المعرفة الإسلامية هنا، وحضور نظرية العمران الاجتماعي، في فلسفة الإسلام، وخصوصا في فكر التحرير المقابل لفقه الحياة الدستورية، ليس الغرض منه إبطال محاسن العقد الاجتماعي، ولا رفض مآلات تنفيذه الإيجابية، لكنّه يعيد بسط نظرياته، ليؤكّد ما صحّ منها، وينقض أو يتمم ما نعتقده خطأً تصورياً، أو تحليلياً لتاريخ الأمم والمجتمعات، ترك مساحة فراغ مهمة في عقد روسّو، بناء على هيمنة العقل الفلسفي في زمنه، والذي نقدَه روسّو بذاته، لكنّ هذا النقد غاب عن بعض تشريعاته.
شكلت علاقة روسّو بأبيه عنه انطباعاً سلبياً، وعلاقة غير ودّية من البداية
ومساحة المعاناة في حياة الفيلسوف، مهمة جداً، كون أن رسالة العقد الاجتماعي تقوم، في الأساس، على وضع معايير دقيقة للعدالة الاجتماعية، التي تُنصف المحرومين، وتعزّز المساواة بين كل المواطنين، وروسّو ولد في حياة بائسة للغاية 1712، توفيت والدته، وهو ابن الثامنة، ورعاه والده الذي لم يكن مؤهلاً للمسؤولية والتربية، وتخلّى عنه مبكّراً، بعد أن اشتبك مع ضابط في جنيف فحُكِم عليه ظلماً، ففر إلى قرية نيون البعيدة عن جنيف، وعاش فيها طوال حياته. وحسب ترجمة عادل زعيتر، شكلت علاقة روسّو بأبيه عنه انطباعاً سلبياً، وعلاقة غير ودّية من البداية. وخلال رعاية خاله له، تعرّض روسو لاضطهاد من المعلم الذي عهد له خاله تعليمه، من خلال لغة الازدراء ومن الكاهن المسيحي، الذي عاقبه على جرمٍ لم يرتكبه، وهو كَسرُ مشطٍ لأخت معلم في الدير.
تراوحت حياة روسّو بعدها، إلى رحلات متنقلة متعدّدة يبحث فيها عن الاستقرار المعيشي من دون بيت أمومة وأبوة يرعاه، ونلاحظ هنا تأثّره بحياة الانحراف التي عاشها عند نحّاتٍ قاسٍ، ليعلمه الصنعة والاحتيال، وبين حرمان التعليم والبحث عن لقمة العيش والاستقرار، وبين البقاء في أزمنة متفاوتة لدى سيدات حسناوات يكبرنه سناً ويقضين وطرهن به، وهو يأخذ حصته في هذه المتعة ومكان السكن الموسمي. وخلال كل تلك الرحلة، بما فيها تقلبه بين الكاثوليك والبروتستانت التي كانت تعني الكثير في حياة أوروبا الدينية.
كان روسّو يشهد حجم التزوير والفساد في الأديرة، وإن أدرك بعض الصالحين المحسنين فيها، ولكنهم كانوا ندرة، وكانت البوابة الكبرى له، في الاحتكاك الشامل مع المجتمع المنحط، في أخلاقيات التعامل، وليس في العلاقات غير الشرعية فقط، وهي مسألةٌ أكّد عليها روسّو بقوة، واستدعاها في دور العقد الاجتماعي في تهذيب هذا المجتمع، الذي تحكمُه سلوكيات الانحياز والنفعية والمصالح الانتهازية، ومن خلالها تسحق الطبقات، أو يسحق بعضها بعضاً.