مركز عبد الله الحوراني.. وغيره

07 مايو 2019
+ الخط -
صدقَ غسان كنفاني لمّا قال إن الشيطان يقعد القرفصاء في العقل الإسرائيلي.. ولأن أمر عدونا هو هذا، فإن صراع الفلسطينيين، وعموم العرب، معه عويص. ومن أوجهٍ عديدة لعدوانية هذا العدو الشيطانية أنه يستهدف بالمحو راهن الفلسطينيين وماضيهم ومستقبلهم. لا يطيق حاضرَهم، ولا يحتمل ذاكرتهم وثقافتهم وآدابهم وفنونهم. والشواهد على هذه البديهية غزيرةٌ منذ ما قبل النكبة في 1948، لمّا لم يكتف جيش المحتلين بنهب الأرض وطرد أهلها وتهجيرهم، ولا بالمذابح ونوبات القتل، وإنما أيضاً سرق نحو ثلاثين ألف كتاب ومخطوط في القدس، ونحو أربعين ألفٍ من مدنٍ أخرى، وسرق مكتبة خليل السكاكيني في القدس، ومكتباتٍ منزليةً غيرها. وفي وقائع تتالتـ، تأكد أن الاعتداء على الموروث الإنساني الفلسطيني، وعلى مؤسسات الفلسطينيين التعليمية والثقافية، هو من صنوف الإجرام التي واظبت دولة الاحتلال على اقترافها، ومن ذلك استباحة الجيش الإسرائيلي، في أثناء اجتياحه بيروت صيف 1982، مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، ونهب محتوياته وخزائن الوثائق والصور والأرشيفات والمحفوظات فيه. وفي جولات اعتداءاتٍ لم تتوقف، ظل جيش الاحتلال يتعمّد استهداف عناوين الشعب الفلسطيني المعنيّة بثقافته وذاكرته، بالحصار وبالعدوان، وبألوانٍ مشهودةٍ من التضييق عليها.
أضافت إسرائيل جريمةً جديدةً إلى أرشيفها الثقيل هذا مساء يوم الجمعة الماضي، في غضون عدوان جيشها على غزة، عندما استهدف بالقذائف والصواريخ عمارة الخازندار، فضرب مقرّات مؤسساتٍ إعلامية، ومركز عبدالله الحوراني للدراسات والتوثيق الذي صيّرته غاراتٌ إسرائيليةٌ ركاماً، فأعدمت مجهود نحو 22 عاماً في صيانة تاريخ فلسطين وقضيتها، وجمع وثائق وتسجيلات وصور وأدبيات ونتاجاتٍ متنوعةٍ فيهما، حيث نشط المركز في عمله هذا منذ أنشئ بقرار من الرئيس ياسر عرفات في 1997 باسم "المركز القومي للدراسات والتوثيق"، وتولى إدارته عبد الله الحوراني (توفي في 2010) ليصبح باسمه الجديد بموجب قرارٍ من الرئيس محمود عباس، في 2012، قبل أن يتبع دائرة العمل والتوثيق في منظمة التحرير الفلسطينية في مارس/ آذار الماضي. وقال مثقفون وكتاب وأكاديميون فلسطينيون، تابعوا أنشطة المركز في مقرّه في غزة (له فرع في رام الله)، إنه كان فضاء نشطاً وحيوياً في إقامة الفعاليات والمناسبات والملتقيات والمؤتمرات المعنية بفلسطين وتاريخها، وبقضيتها، وكذلك بجوانب ثقافية ومعرفية متصلة بالبحث والدرس في هذا التاريخ وتوثيقه، ضمن رؤية المركز ومهماته.
الصدمة الواسعة التي أصابت المثقفين الفلسطينيين، جرّاء الإعدام المميت الذي تعرّض له المركز الناهض، في محلها تماماً، وكذا تسمية وزارة الثقافة الفلسطينية فعلة جيش الاحتلال هذه "جريمة حربٍ ممنهجة" تستهدف الإنسان والذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني. والمرجو أن تنشط الوزارة، بدفعٍ من رئاسة السلطة الوطنية ووزارة الخارجية، من أجل تحقّق ما طولبت به منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو) بإدانة هذه الجريمة، وبأن تعمل الهيئة الدولية الرفيعة على وقف الاعتداءات الإسرائيلية على مؤسسات الثقافة الفلسطينية، فقد خسر أهل غزة، ومجتمع الفعل الثقافي فيها، مأوىً مهماً، كانوا يجدون فيه ما يحتاجون من كتبٍ ودراسات، وهم الذين يغالبون الحصار المعلوم. وفي الأثناء، بقي مركز عبد الله الحوراني نشطاً في مهمته، وقاعات محاضراته واجتماعاته مفتوحةً للجميع، من دون اعتبارٍ لواقع الانقسام الفلسطيني البغيض.
ومما يحسُن التشديد عليه أن استهداف جيش الاحتلال مركز عبد الله الحوراني موصولٌ باعتداءاتٍ لم تتوقف ضد منشآتٍ تنشط في العمل الثقافي والفني، فقد ضربت غارةٌ إسرائيليةٌ مكتبة جامعة الأزهر في غزة، في يوليو/ تموز 2018، كما قصفت غاراتٌ مماثلةٌ في أغسطس/ آب 2018 قرية الفنون والحرف ومركز سعيد المسحال للثقافة والعلوم في غزة، واستهدف قصفٌ آخر، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، مقر فرع اتحاد الأدباء والكتاب الفلسطينيين في غزة. وتؤكد هذه الوقائع، وغيرها، البديهيَّ المعلوم، أن عدوانية الشيطان الذي يقعد القرفصاء في العقل الإسرائيلي تجاه الشعب الفلسطيني بلا حدود.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.