"مدينة .. " عبد الرحيم الصديقي
المرجّح أن الشاعر وكاتب الدراما والمسرح (والطيار) القطري، عبد الرحيم الصديقي، إنما أراد، في كتابته روايته الثانية "مدينة .. وثيقة عشق" (دار بلاتينيوم للنشر والتوزيع، الكويت، 2019)، الإفادة من خبرته كاتب أشعارٍ غنائية، ونصوصٍ مسرحية (بعضها للأطفال)، وكاتب دراما، نحو ثلاثين عاما، في محاولته بناء عمل روائي، يبدو تركيبيّا، متشظيا بعض الشيء، ليس من جهة تعدّد شخصياته، والتي تبدو على تشابه ظاهر لا يجعلها شخصياتٍ متنوّعة، وإنما من منح كل منها قصتها الخاصة، لتتلملم الرواية مما يجوز اعتبارَها محكياتٍ عن هذه الشخصيات، يرويها بتلقائيةٍ، شديدة العفوية والبساطة، ساردٌ عليمٌ بكل شيء عنها، وتروي تفاصيل فيها هذه الشخصيات نفسها، ليتداخل الحكي بالصيغتين في مواضع غير قليلة في العمل، وليتواشج أحيانا مع مونولوغات تبثّها هذه الشخصية وتلك. وذلك كله في عشرين فصلا يجعل الصديقي أمكنة كل منها عناوينها المرفقة مع تاريخ الواقعة المحكي عنها، في أحياء الدوحة وفي أحياء في إسطنبول، وفي دبي وحلب وديترويت وإيران. وإذا صحّ القول إن ثمّة شخصية مركزية، هي الشابة مدينة، ذات الأرومة الإيرانية (الفارسية) المولودة في الدوحة، ولا يفارقها هاجس الحصول على الجنسية القطرية، فإن الشخصيات الأخرى لا تظهر مساعدةً أو ثانويةً أو تفصيليةً، بل تبدو فاعلةً، ومن خيوط حكاياتها المتشعّبة ما هو موصولٌ بمدينة وما هو غير موصولٌ بها. وإذا صحّ قول آخر إن القصّ كله ظلّ يتمدّد على سطوح هذه الشخصيات، بمعنى أنه بقي يقدّم ظاهرَها، وهشاشَتها غالبا، ركاكَتها إن شئنا، ولا يذهب إلى العميق في جوانيّاتها وحواشيها، فإن مدينة وحدَها ربما (ربما مهمّة هنا) كانت الشخصية التي بدا الشغل على كينونتها أقوى وأكثر جلاء.
تُرى، ما الذي جعل المحكّمين في الدورة السادسة لجائزة كتارا للرواية العربية، المعلنة نتائجها قبل أسابيع، يمنحون "مدينة .." جائزة فئة الرواية القطرية، فأحرزتها من بين 15 رواية متنافسة؟ لا أدري. ولكن المرجّح أن لعبة الالتباس فيها هي دافع الفوز، وهي لعبةٌ أتقنها عبد الرحيم الصديقي، بدليل بعض الارتباك الذي يُحدِثه لقارئ روايته، الإرتباك الشائق، الماكر، عندما يجعل هذا القارئ يروح من حكايةٍ إلى أخرى، ومن مقطع زمنيٍّ إلى آخر، في نوعٍ من "المناورة" معه. ولا يجترح الكاتب، في صنيعه هذا، جديدا مبتكرا، لكنه يفعله بإمتاع، ما يوحي بأن هذا المسلك في القص والسرد له غوايته على الصديقي الذي يصنع قفلةً تُختَتم بها الرواية تذهب فيها لعبة الالتباس إلى شيءٍ من المغامرة في تجريبيّتها، وذلك عندما نصادف مدينة، البطلة المركزية، تحضر حفل توقيع الرواية التي بين أيدينا في معرض الدوحة للكتاب، وتطلب إهداءً على نسخةٍ، ولكن لابنها نجم، طفلها الرضيع الذي تقصّ آخر سطور الرواية أنها (مدينة) تجرّ عربته، ويتبعها "رجلٌ، طويلٌ، ذو كرشٍ مترهل، وفي يده سبحةٌ يحرّكها بين أصابعه، يرتدي ملابسه الرياضية، وهي تعنّفه بشدة، .. "لنذهب يا صقر .. مب وقت الأسئلة". وذلك بعد أن نعرف أن الرواية إنما هي بالتركية مترجمةً إلى العربية، لكاتبةٍ تركية، وكتبت بين الدوحة وإسطنبول. وفي هذا، يبلغ عبد الرحيم الصديقي، في "لعبه" مع قارئ روايته، منزلة عالية في شحنة الطرافة، والحذاقة ربما. وفي البال أن عبد الرحيم الصديقي نفسه مرّ في واحدةٍ من صفحات الرواية قبطان طائرة من اسطنبول إلى الدوحة.
ولكن، هل كانت "جرأة" صاحب "مدينة .. حكاية عشق" فقط في بنائها، ومناورات السرد والتباساتٍه فيها؟ لا، إنها أيضا في "تجرّئها" على بيئتها الخليجية، القَطرية. وهنا، لصاحب هذه السطور أن يرى أن الرواية بدت قاسيةً في ما أرادت "تعريته"، وفي تقديمها شخصياتٍ بالغة السلبية في علاقتها بالمرأة، وأتجنّب، هنا، نعتها بأنها شخصياتٌ نمطية، فواحدٌ من هؤلاء، السبعيني غازي، والذي تتزوّج به مدينة، ويغدُر بها تاليا، بزعم أنه أصيب بالزهايمر، يتحدّث عن نفسه إنه يعشق التبديل، "أتزوّج الرابعة وأنا أفكّر في التاسعة، أستمتع بها وتستمتع بي وبأموالي". ومنزل هذا الرجل، وهو تاجر له محل قماشٍ في سوق واقف، أول منزلٍ تمارس فيه الخادمة الفلبينية، إيفانجلين، "عبوديّتها". ويُحسب للرواية أنها اقتربت كثيرا من قضايا غالبا ما يتحاشى الإعلام في الخليج الإتيان عليها، من قبيل الطائفية والعرقية، والإسراف، والتلهي بالزواج من هذه وتلك. وفي الرواية مواضع غير قليلة عن هذا كله وغيره.
كل إيجازٍ مخلّ. ولا تنكتب هذه السطور لإيجاز رواية "مدينة .."، فهي، ابتداءً وانتهاء، لا توجَز، لأن "الحدّوتة" فيها ليست غرضها الأول، وإنْ تبقى متعة الحكاية هي متعة كل رواية (في واحد من مذاهب الكتابة الروائية)، وإنما المقصد هو التأشير إلى عملٍ لشاعر وكاتب أغنيات ومسرحي وسيناريست قطري أغوته كتابة الرواية، فكتبها، مجرّبا ومختَبِرا ملكاتِه، نجح كثيرا في مواضع، وأخفق قليلا في أخرى.