مديح قانون الغابة
افتروا علينا كذبًا، فقالوا عند استشعار الظلم: أقانون الغابة؟
وهو تعبيرٌ يُقال في المحاكم التي تتصدّرها صورة رومانيةٌ شعارا، وهي امرأة معصوبة العينين، عارية الكتفين، تحمل ميزانًا بيد وسيفًا باليد الأخرى. ويتردّد هذا التعبير في وسائل الإعلام الحكومية والمعارضة، والقصص الحديثة، والشعر الحديث، ولم تسلم منه إلا وصفات الأطباء، وأجهزة الإسطرلاب الأرضية.
أيها السادة المخدوعون، الغابة مكانٌ طيّب للعيش، وافر الماء والمرعى، هي جنّة على الأرض، وفيها يسمع المرء أشجى الألحان، فالطيور تصدَح بالأغاني بُكرةً وعشيا، وتعزف الريح على أوتار الأشجار بالغدو والآصال، ويروي النهر خريرًا أخبار رحلته من الجبال، وتسيل فيه الأعسال من خلايا النحل، وتموج المروج بأنواع الزهر، ويعبق النسيم بغالية العطر.
ليس في الغابات سجونٌ ومعتقلات، ثابتة أو سائلة، وليس فيها شرطة علنية أو سرّية، وليس فيها بنوك أو ثلاجات لحفظ الأطعمة أو حفظ الجثث. ليس في الغابة حسابات سويسرية ولا كمامات صحية، ولا أقنعة ولا أمتعة. ليس في الغابة طغاة ينشرون صورهم على جدران الوطن وظهر المجن. ليس في الغابة جلادون ينقشون بالنار ذكرياتهم على خريطة الجسد البشري. ليس في الغابة بطاقات ذكية ومسابقات شعرية، وشرطة مرور، وأمكنة ممنوع الاقتراب منها والتصوير. ليس في الغابة طائفية، ليس فيها عنصرية، ليس فيها مطارات وأروقة خاصة بكبار الزوار وأخرى بصغار الكسبة. ليس فيها ناطحات سحاب، ليس فيها أقبية محصنة ضد القنابل النووية، ليس فيها عملة مزيّفة، ليس فيها درهم ولا دينار ولا ليرة أو دولار، ليس فيها سوى الشبع، قد يدخر وحشٌ بقايا طريدته، حفظا للنعمة. ليس فيها كذب، إلا أن تتجمد فراشة مكرا، أو يتماوت يربوع خدعةً، أو تتلوّن حرباء كيدًا. الغابة فيها حرية، يستطيع فيها الكائن أن يدافع عن نفسه، فالأرنب الذي يضرب به المثل في الجبن، يستطيع أن يفرَّ من عدوه، والفأر من الهررة البرية، والوعل من الدببة، والعصافير تلوذ بالشوك من الصقور والشواهين. ليس في الغابة ضرائب ولا مكوس ولا إتاوات ولا غرامات، وليس فيها توسيع شوارع من أجل سيارة الرئيس الجرافة. ليس في الغابة نجوم تلفزيون وسينما، ليس للدجاجة رغبة في التصوير سيلفي بجانب الطاووس، وليس للقرد رغبة في توقيع من الأسد الملك على قميصه الكجوال.
افتروا علينا فقالوا: الأسد ملك الغابة، ربما خلع إعلاميٌّ شاطر عليه هذا اللقب خوفًا من زئيره، أو مهابة من لبدته، ثم استعيرت التصنيفات البشرية لأجناس الحيوان مراتب ومنازل، فأقوى الحيوانات في الغابة هو النملة وليس الأسد، بل إن سكّان الغابة ملوكٌ طرًا؛ السنجاب أمير فوق شجرة السنديان، والقرد إمبراطور فوق ذرى الأشجار، والأرنب بطلٌ في البلاي بوي، والجُعل فارس في صناعة كرات الروث وتنظيف الغابة، والصرصور نجم في الطرب، والبوم فحل في مكافحة القوارض.
ليس في الغابة أدوية فاسدة، ليس في الغابة تخمة، ليس في الغابة كوليسترول وكورونا وحبوب فيتامين دال، ليس فيها مليارديرات، ليس فيها أقمار صناعية وحرب نجوم، فيها قمر وحيد، تعدُّ به الكائنات الساعات وتفصل به سكن الليل عن معاش النهار. لكل حيوان دولة، لكن أكبرها لا يجاوز ملعب كرة قدم، وليس فيها جند وحرس، ويستطيع الحيوان نازحًا أو تائهًا دخولها، فليس على الحدود أسلاكٌ مكهربة أو شائكة، وليس فيها ألغام أو جدران أو جوازات سفر. الطعام مجاني، موز على النخل، عنب يتلألأ تحت الدوالي، صمغ ثمين يسيل على الجذوع.
الغابة جنّة، أيها السادة، وهي أعدل من غابات البشر الإسمنتية. والافتراس ضرورة، فقد يفترس الوحش ظبيًا مريضًا فيصون بقية القطيع، والظبي محصّن بستة من أمهر المحامين في محكمة الغابة، وهم؛ أطرافه وقرناه، أما إن كان خشفًا صغيرًا، فيمكنه الاختباء في الكُناس، فيلتبس أمرُه على الصياد.
أيها الإنسان الكفور، إنك تنسى أنَّ الأسد الذي تصفه بالمَلك قد يموت جوعًا أو رفسًا، وهو يجري عبثًا وراء حمار الزرد، أو يقضي بطعنةٍ من قرن وعل، أو يقع فريسة بين فكّي تمساح، وهو ما يحرم منه البشر في محاكمهم التي تحمل فيها امرأةٌ ميزان العدل المثقوب، وقد عُصبت عيناها كي لا نرى محجريْهما المفرّغين من حبيبتيهما.