مدن المعرفة السبع
"مدن المعرفة السبع، أو كيف وصلت إلينا أقدم المخطوطات وأكبرها"، بحثٌ عميق ومشوّق للكاتبة البريطانية، فيوليت موللر، صدرت ترجمته إلى الفرنسية هذا الموسم عن دار بايو. وفيه تُجري الكاتبة تحقيقا يساعدنا على اكتشاف الرحلات الطويلة والغريبة التي قامت بها بعضُ المخطوطات القديمة قبل أن تبلغنا، في عصر النهضة، بعد أن اعتقدناها ضائعة مندثرة. ففي العام 500 م، وبعد سقوط الإمبراطورية الرومانية، لم يكن قد تبقى كثير من المؤلفات التي كُتبت في أثناء الحقبة اليونانية – الرومانية القديمة، وكانت أعدادُها قد تجاوزت مئات الآلاف، إلا أن بعضا قليلا منها نفذ من الضياع هباء، ليظهر لاحقا في عصر النهضة، مشكّلا أحد أهم مراجع عصره العلمية، من بينها على سبيل المثال: كتاب "العناصر" لإقليدس، وقد ألفه عام 300 قبل الميلاد، وبقي أكثر من ألفي سنة يعتبر قاعدة علم الهندسة. وكتاب "المجسطي" لبطليموس، ويعني الأطروحة الرياضية، وهي رسالة بحثية في الفلك وضعت عام 148 في الإسكندرية. ونصوص عديدة للطبيب اليوناني غاليان الذي بقيت نظرياته تهيمن على عالم الطب حتى مجيء القرن الثامن عشر. بفضل إضافات العلماء العرب إلى تلك الأعمال، وإلى سواها من المخطوطات العلمية القديمة، اغتنت تلك الكتب وتطوّرت، ناقلة معها معارف المدن السبع التي كانت تشكّل مناراتٍ علمية وثقافية كبرى: الإسكندرية ومكتبتها، البندقية ومطابعها، باليرمو وساليرنو وأطباؤها، قرطبة وخلائطها الثقافية، توليد وناقلو الثقافة فيها، وبغداد وبيت الحكمة فيها.
هذا ولا تكتفي فيوليت موللر برواية قصص عدد من المخطوطات العلمية الناجية، بل هي تورد أيضا كمية من التفاصيل والمعلومات والنوادر الخاصة بكيفية انتقال تلك المؤلّفات التي ستكون في أساس الثورة العلمية في أوروبا، في القرنين السادس عشر والثامن عشر. أيضا، تهدينا الكاتبة إلى طرق العيش في تلك الحواضر، حيث تنتشر معاهد التعليم، ويكثر العلماء ورعاة الفنّ والفنانين. أما أبطال الروايات تلك، فهم من البشر أحيانا، أو من حبرٍ وورق في أحيان أخرى. في القرن الأول مثلا، كتب الطبيب اليوناني ديسقوريدس موسوعة ضخمة مؤلفة من خمسة أجزاء، يصف فيها نحو 600 نبتة مع فوائدها الطبّية وطرق استعمالها. تُرجمت الموسوعة في بغداد، إلا أن النباتات الموصوفة لم تكن تنتمي إلى تلك البيئة، فراحت جهود الترجمة سدى وهباء. في المقابل، توسّعت النسخة التي ترجمت في قرطبة لكي تنضمّ إلى مكتبة الخليفة الأموي (كانت تحوي أكثر من 600 ألف مخطوطة، أي أكثر مما كان في أوروبا مجتمعة)، واغتنت بعون الراهب نيكولاس الذي أَرسله البلاط الإمبراطوري في بيزنطة، وكان يتقن اليونانية والعربية وعلم النبات. هكذا، وبإشرافه، تمكّن العلماء المسلمون في إسبانيا من إضافة نحو ثلاثة آلاف نبتة إلى الموسوعة التي شكّلت الأساس لعديد من العلاجات بالأعشاب وزراعة الحدائق في أوروبا خلال عصر النهضة. وفي العام 1150، ترك شابٌّ مولع بالفلك بلده إيطاليا، وقطع آلاف الكيلومترات، لكي يبلغ توليدو، يحدوه هدفٌ وحيد، الحصول على نسخة عربية من كتاب بطليموس "المجسطي". بيد أن المدعو جيرار دو كريمون سيمضي حياته هناك، حيث سيتعلّم العربية، ويترجم أكثر من 70 مخطوطة قديمة إلى اللاتينية...
يروي كتاب "مدن المعرفة السبع" تاريخ الفكر العلمي في تلك الحواضر التي شكلت منارات مشعة في العصور الوسطى، وكيفية انتقال نتاجه على أيدي رجالٍ شغوفين ومتنوّرين، أو بواسطة تجار ومثقفين ونسّاخين ورهبان، عربٍ في البداية، ومن ثم لاتينيين، كانوا ينقلون المؤلفات من يدٍ إلى يد، ومن مكانٍ إلى آخر، فيتحقّقون ويترجمون ويقارنون ويضيفون ويثرون.