محمد دحلان مجدّداً
لم تُسعف المذيعةَ اللبنانية، جيزال خوري، خبرتُها التلفزيونيةُ الطويلةُ في الاحتراس من خطأ جسيمٍ وقعت فيه، في أثناء محاوَرتها محمد دحلان، الأسبوع الماضي، في برنامجها "مع جيزال"، وأوقعت فيه أيضا محطّة سكاي نيوز عربية التي تبثّه، بعد شيءٍ من التسامح مع أخطاء نحوية ارتكبتها في قراءَتها ما قرأتْه في تقديمها ضيفَها وموضوعات مقابلتها معه. يتعلق هذا الخطأ بحيْثيّة هذا الضيف بالضبط، ففيما أخبرت المُحاوِرة مشاهديهما بأنه قياديٌّ فلسطينيٌّ سابق، كان "السكريبت" على الشاشة يُخبرنا بأنه قياديٌّ فلسطيني، كما الوصف الذي عرّف به الخبر الموجز عما قيل في النصف ساعة (مدة المقابلة) في الموقع الإلكتروني للمحطّة. وقد علّمونا في ألف باء الصحافة أنك قبل أن تبدأ مقابلةً مع أي شخصٍ، سواء كان رئيس مجلس قروي في جنوب السودان أو الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، أن تطلب منه ضبط اسمِه كيف يُنطَق ويُكتَب، ومسمّاه وتعريفَه بالضبط. والظاهر أن جيزال (وليس جيزيل) لم تُبادر إلى هذا، فكانت غلطتُها التي أظنّنا، نحن الفضوليين، وقعنا بسببها في حيص بيص، ما إذا كان محمد دحلان (62 عاماً) قيادياً فلسطينياً سابقاً كما تراه الزميلة، أم هو قياديٌّ راهنٌ كما تراه المحطّة. وفي أعرافنا، نحن العاملين في الصحافة، تنتفي الحاجة (الإعلامية التلفزية هنا) لمحاورة ضيفٍ له صفةٌ سابقةٌ لم يعد يقيم عليها، وهو قاعدٌ للإجابة عن الأسئلة، إلا إذا كانت المحاوَرة عن الذكريات ومن الذاكرة.
يلحّ صاحب هذه الكلمات على هذا الأمر، غير الشكلي ألبتّة، لسببٍ شديد الوجاهة، موجزُه أن الضيف المتحدَّث عنه كان شديد الحرص على توصيف نفسه، في غير إجابةٍ عن غير سؤالٍ من مضيفته، بأنه منذ 12 سنة لم يعُد في أي موقعٍ على أي مستوىً في الإطار الرسمي الفلسطيني، وأنه لا يعمل إطلاقاً من أجل أن يكون رئيساً للسلطة الفلسطينية، ولا في أي منصب. ولربما جاء مُستغرباً من صاحبِنا هذا أنه لم يأت أبداً على تسميةٍ له كثيراً ما صودفت في غير موضِع، وهو أنه "قائد التيار الإصلاحي الديمقراطي في حركة فتح"، وليس معلوماً ما إذا كانت المذيعة المعروفة على درايةٍ بهذه التسمية، وبالتيار المذكور. ولمّا كان محمد دحلان ما زالت له صفتُه نائباً في المجلس التشريعي الفلسطيني (منذ انتخابات 2006 التي لم تعقبها أيّ انتخابات)، وهي صفةٌ تصلُح لاستخدام الصحافة (وغيرِها) عند اللزوم، كان في وُسع الزميلة، المجرّبة، أن تخاطِب ضيفَها بهذه الصفة، فتكون في الضفة الصّحيحة، فقد استخدمَها صاحبُها في "تصميم" الإعلان عن "جائزة النائب محمد دحلان للتميّز والإبداع" (10 حقول، إحداها السينما وأفلام الكرتون) في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، وإن أغفل الخبرُ المرفق به، والذي وزّعته مجاميع دحلان نفسِه، صفة النائب هذه، وأسبقت اسم الرجل بصفته تلك، "قائد" ذلك التيار. ومن بالغ الشذوذ في العمل التلفزيوني أن جيزال، في مختتم الحلقة، لم تعرّف ضيفها بأي صفة، واكتفت به محمد دحلان وحسب. ومن بديهي البديهيات أن يُودَّعَ الضيف بمثل ما استُقبل به.
ولكن، من هو حالياً محمد دحلان؟ يقولون إنه ما زال رقماً في الساحة الفلسطينية، بدليل إنه، فيما يحوز جنسية الجبل الأسود، قادرٌ على أن يشكّل قوائم انتخابيةً تقلق محمود عبّاس. ويقولون إن ما يُنفَق باسمه على عائلاتٍ وأسر ومحتاجين في قطاع غزّة والضفة الغربية (ولبنان) يجعل له بعض الولاء. أياً كانت مقادير الوجاهة في فرضياتٍ كهذه، فالراهن الفلسطيني يقيم في القاع، الأمر الذي يجعل لدى هذا الرجل فائضاً من الثقة بنفسه، يجعله يفترض أن الفلسطينيين مهمومون به، فيخبرهم بأنه لن يترشّح لرئاستهم. لكن هذا، على ما أخبر جيزال (وأخبرنا؟)، لا يعني أن يترك مسؤولياتِه الوطنية والأخلاقية تجاه الشعب الفلسطيني، "بالنّصح والمساعدات و..." مثلاً. وللحقّ، يُغبَط هذا الصادر بحقّه حكمٌ قضائيٌّ فلسطينيٌّ في 2016 بالسجن ثلاث سنوات، وتعتبره محكمة مكافحة الفساد فارّاً، وتُطالبه بإعادة 16 مليون دولار إلى خزينة السلطة الفلسطينية، يُغبَط على ما يرفل فيه من أوهامٍ تزيّن له أن الشعب الفلسطيني في حاجةٍ إلى نصائحه.
تطاوَسَ محمد دحلان بعض الشيء في قعْدته، وإلى جانبه علم فلسطين. ارتدى ثوب المتيّم بالديمقراطية، عندما ألحّ على انتخاباتٍ فلسطينية، ولو فازت بها "حماس". وتمنطق عقيدة المقاتل النّحرير لمّا حكى عن إبداع الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، وتزيّا بإهاب المفكّر السياسي، عندما طالب باستبدال الانشغال بحلّ الدولتين بانشغالٍ بحلّ الدولة الواحدة.. وفي الغضون، لم تعرف جيزال خوري أيّ محمد دحلان قدّامها.