محظيات النظام

08 اغسطس 2023

(حافظ الدروبي)

+ الخط -

قبل مواقع التواصل الاجتماعي، كانت الحياة الخاصة للساسة ورجال الدولة في العراق تتحرّك خلف أستار كثيفة، حتى أن زواج الرئيس الأسبق صدّام حسين من زوجة ثانية، سميرة الشابندر، وإنجابه منها، كان أشبه بالأسرار الأمنية. كذلك الأمر مع الحياة الليلية لرجالات النظام، ونفوذ راقصاتٍ من الغجر، وبعض النساء اللواتي انتقلن إلى العمل داخل الدائرة الضيقة للسلطة ورجالاتها.
كانت النساء القريبات من دائرة السلطة يتمتعن بنفوذ كبير، لكن طبيعة هذا النفوذ وحدوده، وكيفية استثماره، ظلّت أيضاً غير معروفة على نطاق واسع، على الرغم من التصوّر الشائع عن وجود هذه الفئة من النساء، اللواتي لا مميزات خاصّة لهن خارج حدود ما هو معهود في التراث العربي القديم عن المحظيات والجواري مع السلاطين والأمراء والخلفاء، فهن يستثمرن "سحرهن" الأنثوي في جني المكاسب. 
"السحر الأنثوي" ربما كان الأداة التي صنعت فيها بعض النساء قدرهن وتأثيرهن على مسار التاريخ القديم، ولكن هذا يفترض أنه تغيّرَ أو تعدّل لصالح شكلٍ آخر أحدث وأكثر إنسانية للحضور والتأثير الأنثوي. ومن أوضح مظاهر التحديث في البلدان العربية في النصف الأول من القرن العشرين التركيز على أشكال "تمكين المرأة"، من خلال زجّها في التعليم حتى مراحل متقدّمة، ومن ثمّ تسليمها مهام في إدارة الدولة والعمل في القطاع العام. وأبرز مثال عراقي على ذلك نزيهة الدليمي، الطبيبة العراقية التي تولّت منصب وزير البلديات بعد 1958، لتكون بذلك أول وزيرة في العالم العربي. ثم لاحقاً عشرات من الشخصيات العلمية والأدبية والفنية التي عكست شكلاً من أشكال الحضور النسائي والتأثير على الحياة العامة.
عكس شكل النظام السياسي الجديد، ما بعد صدّام حسين، من خلال الدستور والتشريعات الخاصة بالانتخابات، دوافع تمكين المرأة وجعلها مشاركةً في القرار السياسي وقيادة المؤسّسات، ولكن المتحقّق بعد 20 سنة من عمر هذا النظام لا يبدو مبشّراً، فالشخصيات السياسية النسائية في البرلمان ما زالت، في الأعم الأغلب، مجرّد بيادق لتنويع الصورة في الكيانات السياسية، ولم تنشغل هذه الشخصيات النافذة بشكل واضح بقضايا المرأة وزيادة حضورها في الشأن العام، بقدر انشغالها بالأجندات السياسية للأحزاب التي يسيطر عليها الرجال!
على الضد من ذلك، جرى التعامل بشراسة مع النساء اللواتي أبرزن حضوراً ينافس حضور الرجال، أو يمتلكن شخصياتٍ قوية، وتشهد على ذلك تصفية ناشطات، مثل ريهام يعقوب وسارة طالب ونور العيساوي، وعشرات أخريات، بالإضافة إلى حملات التشويه والنيْل من الأعراض، والتهجير والخطف والابتزاز وتصوير فيديوهات تحت التعذيب والإكراه.
أوضح هذا النظام "الجديد"، بأشكال مختلفة، أنه لا يعترف بالنساء إلا أشباحاً تحت ظل القادة السياسيين، كما العديد من النائبات في البرلمان العراقي اليوم، أو "محظيات". ويعيدنا الكلام عن المحظيات إلى بداية هذا المقال؛ فانتشار مواقع التواصل الاجتماعي وهيمنتها قذفا إلى الفضاء العام أشكالا متنوّعة من النساء من ذوات الحضور والتأثير، بعضهن يكتفين بهذا الحضور لزيادة المعجبين والمتابعين وكسب أموالٍ تتيحها مميزات هذه المواقع، أو للترويج والدعاية لمنتجات متنوّعة، وهذا مما هو شائع ومعروف على مستوى العالم، ولكن أخرياتٍ منهن وجدن طريقاً للارتقاء حتى دوائر السلطة والنفوذ. وهذا النوع الأخير هو الأكثر صخباً والذي تأتي منه معظم الفضائح المرتبطة بالسياسيين في العراق اليوم.
صعوبة السيطرة على مواقع التواصل تجعل الحياة السريّة للسياسيين معرّضة للانكشاف في أية لحظة، وهذا ربما (بالإضافة إلى محاولات التضييق على الصوت السياسي المعارض) هو ما يدفع بعض السياسيين إلى محاولات إقرار قوانين تقيّد من حرية التعبير، وإصدار قوانين إشكالية كما حصل مع قضية "المحتوى الهابط"، التي شغلت الرأي العام فترة، واستخدمت للتضييق على عمل الناشطين السياسيين، تحت ستار السيطرة على المحتويات غير اللائقة على مواقع التواصل. والمفارقة أن ناشطاتٍ كثيراتٍ على مواقع التواصل بعنوان "بلوغرز" استطعن التملّص من أوامر الاعتقال أو إغلاق الحسابات الشخصية من خلال علاقاتهن مع الطبقة السياسية. أما من تأثرن فهن اللواتي لا يملكن هذا النوع من العلاقات.
ربما يتمنّى السياسي العراقي اليوم لو كان في زمن النظام السابق، حيث حياته السرّية تحت ستار العتمة الإعلامية، ويشعر بأنه ربّى هذا النوع من الشخصيات النسائية ليكنّ محظيات في قصره، لكنهن تمرّدن وصرن يجرجرن السياسيين خلفهن، في فضائح مصوّرة من كاميرات الناس العابرين.

أحمد سعداوي
أحمد سعداوي
كاتب وروائي عراقي