عزلة السلطة الاستبدادية
في أواخرعقد التسعينيّات، كان عديدون من المُثقَّفين العراقيين قد اتخذوا من مقهى الجماهير الشعبي، في محلّة الكرنتينا في الباب المُعظّم في بغداد، مكاناً للقاء اليومي، وهو مقهى شعبي عادي مُتهالِك وقديم، حوّله المُثقّفون مقهى ثقافياً بحكم الأمر الواقع. ومن بين أجواء اللقاءات والحوارات وتبادل الكتب، وغير ذلك، انبثقت فكرة أن يُعاد رصف تخوته ومقاعده الطولية في شكل مُربّع، في كلّ أسبوع مرّة، لإقامة فعّاليات ثقافية على هامش الفعاليات التي تقيمها عادة وزارة الثقافة أو اتّحاد الأدباء العراقيين، وغيرهما من المُنظّمات الرسمية.
كان القائمون على هذه الفكرة هم القاصّ والكاتب محمد خضير سلطان، والناقد التشكيلي مؤيد البصّام، وقدّم الآخرون المساعدة والمساندة للفكرة، بما فيهم صاحب المقهى، واستمرّت هذه الفعاليات التي حظيت باهتمام الوسط الثقافي العراقي وتفاعله، حتّى جاء ذلك اليوم، قبيل غزو العراق ببضعة أشهر، حين احتدّت فجأة نبرة النقاشات بشأن الحقوق المدنية والحرّيات السياسية لتمسّ الخطوط الحمراء للسلطة، فجاءت رسالة مُبطّنة من بعض جواسيس السلطة لتبلّغ القائمين على هذا المنتدى أنّ عليهم إيقاف نشاطاتهم وإلّا تعرّضوا للاعتقال، وهذا ما حصل فيما بعد، وتوقّفت النشاطات نهائياً.
كان يمكن لنقاشاتٍ من هذا النوع عن الحقوق والحرّيات السياسية، في الثمانينيّات، أن تُؤدّي إلى الإعدام، حينما كانت مخالب السلطة حادّة لا تتحمّل أيّ رأي آخر غير رأيها هي، الذي ينعكس في الإعلام والتربية وفي مناحي الحياة كلّها. وكان مُجرّد ترك اللحية طليقة يؤدي إلى الاعتقال والاتّهام بالانتماء إلى الأحزاب الإسلامية المُعارضة. أما في التسعينيّات فقد ارتخت يد السلطة لأسباب مختلفة، منها التأثير المدمّر للعقوبات الاقتصادية الدولية على البلد، وشعور النظام بالعزلة، وأيضاً انتفاء أيّ عناصر داخلية مهدّدة للسلطة بشكل جدّي. وربّما هناك أسبابٌ أخرى أكثر عمقاً ودقّة، ولكن في الأحوال كلّها، كان مناخ التسعينيّات مختلفاً عن العقود السابقة، فكنّا نتداول، على سبيل المثال، الكتبَ التي كانت توصف بأنّها ممنوعة، مع غضّ الطرف من قبل أعين النظام عن هذه النشاطات.
في واقع افتراضي مُتخيّل، عملتُ عليه في نصّ أدبي؛ يفتح النظام الأجواء أكثر، فما تكون ردّة فعل المجتمع، وتحديداً فئة الشباب؟ سيتمدّدون في هذه الفسحة الجديدة، ثمّ يطالبون بالمزيد. فما بين الاستبداد والحريّة لا توجد تسويات مُستقرّة في المنتصف. قد لا يقوم المجتمع بردّة فعل ثورية تجاه التضييق الذي تمثّله السلطة الحاكمة، ولكنّه يستثمر دائماً كلّ فسحة متاحة من الحريّة، ولا تنفع الدعاية المفروضة من الأعلى في غسل أدمغة الناس إلّا في نطاق محدود.
من المؤسف أننا اليوم، وإذ نتحدّث عن هذا المناخ الكابوسي الذي طبع، بمستويات مختلفة، حقبة نظام صدّام حسين في العراق، فإنّنا نعيش اليوم أجواءً مشابهة، فيكلّف الرأيُّ الحرُّ صاحبَه حياتَه في بعض الأحيان. بينما يمثّل التهديد بالتصفية والتشريد هاجساً يفرض ظلّه الثقيل على كثير من الكتّاب والمُثقّفين، الذين اختار كثير منهم، خصوصاً ممن يعيشون داخل العراق، الصمت درءاً للمخاطر وحماية لأنفسهم وعائلاتهم.
تنفرد أحزاب السلطة الحاكمة في العراق اليوم بالدعاية والترويج في الفضاء العام، ويتصوّر القائمون عليها أنّهم يستيطعون انجاز براءات اختراع جديدة، غير تلك التي اعتدنا عليها في زمن نظام صدّام حسين. فصمت الناس ليس دليلاً على التأييد أبداً.
يُترجم مناخ خنق الحريّات والإرهاب العام رفض السلطة أيّ دور مجتمعي في تكوين الاتجاهات العامة للإدارة والتخطيط، فتعزل السلطة، باعتبارها مجتمعاً صغيراً، نفسها عن المجتمع العام، وتحرم نفسها من فائدة النقد، الذي يقوّم المسارات، ويمنع السلطة من السقوط في أخطاء كارثية، كما كان يحصل مع نظام صدّام حسين مثلاً.