محطّات في الملفّ السوري
يلاحظ مَنْ يراقب الوضع السوري أمراً مثيراً؛ أنّ العقوبات الأميركية على نظام الأسد كانت، في السابق، تُفرض بسهولة، ومعظمها قوّية، ومُؤثّرة، مثل قانونس قيصر والكبتاغون، ناهيك عن العقوبات التي فُرضت على أشخاص يُمثّلون الأذرع الأمنية للنظام، ومؤسّسات اقتصادية ومالية تتعامل مع النظام. ولكنّ سياسة أميركية جديدة، مختلفة، أخذت تظهر في الآونة الأخيرة، ولعلّ المحطةَ الأبرز فيها امتناعُ الرئيس الأميركي جو بايدن عن توقيع "قانون مناهضة التطبيع مع النظام السوري"، قبل نحو شهر.
لم يكن تصرّف الرئيس الأميركي مفاجئاً لمن يراقب التحرّكات الدبلوماسية العربية التي أعقبت الزلزال، الذي ضرب شمال سورية وجنوب تركيا في 6 فبراير/ شباط 2023، وقد رأينا كيف سافر بشّار الأسد، على نحو مفاجئ، إلى عُمان، وجاء وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي إلى دمشق حاملاً مبادرة (مدعومة من دول عربية)، تتضمّن إعادة سورية إلى جامعة الدول العربية، بعد عقد كانت خلاله مُبعدة عنها، وقد تسرّب، وقتئذ، أنّ المبادرة ترمي إلى مساعدة "الشقيقة" سورية، وتطبيق قرار مجلس الأمن 2254 لعام 2015، بطريقة الـ"خطوة خطوة"، أي أن يجري النظام السوري إصلاحات، ويقدّم "تنازلات"، مقابل مساعدته عربياً، وبالأخص في ملف إعادة اللاجئين، الذي يتطلّب إعادة الإعمار. وكانت الخطوة التالية حضور الأسد مُؤتمر القمّة العربية الإسلامية في الرياض في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، ثم قمّة المنامة في مايو/ أيّار 2024، وقد ترافقت هذه التطوّرات، منذ بدء ظهورها، مع سيلٍ من الآراء والتكهّنات والتحليلات غير المُتفائلة، التي تذرّعت بأنّ نظام الأسد عصيّ على الإصلاح، ولا يمكن أن يُقدّم تنازلات، وشَطَحَ خيالُ بعض المُحلّلين إلى وضع احتمال أن تتدخّل الدول العربية في سورية عسكرياً، لإرغامه على تطبيق القرار 2254.
أسمح لنفسي هنا، باعتبار أنّني كنتُ مع الثورة من بداياتها، ثمّ في المعارضة السياسية (الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية 2014- 2016)، بتسجيل بعض الملاحظات. أولاها، أنّني سُررت يوم علمت أنّ جامعة الدول العربية منحت مقعد سورية ل"الائتلاف"، بعض الوقت، ولكنّ عقلي (البارد)، اليوم، يقول لي إنّ هذا كان مخالفاً للأعراف الدبلوماسية، فما هي الصفة التي تؤهّل إحدى مؤسّسات المعارضة للجلوس في مكان دولة؟ وثانيتها، أنّ محاولات خنق الدول العربية، ودول العالم العظمى، وفي مقدّمتها الولايات المتحدة، النظام أدّت إلى خنق الشعب السوري وإيصاله إلى حافّة الجوع. وثالثتها، أنّ إسقاط نظام الأسد عسكرياً لم يكن ممكناً، بسبب التوازنات الدولية، بين روسيا والصين وإيران من جهة، ودول المعسكر الغربي من جهة أخرى، ولعلّكم تذكرون كيف نزلت روسيا بجلالة أسطولها الجوي وأحرقت الأخضر واليابس، حتّى تمكّنت من منع سقوط حلب، ثم بدأت تعمل، مع ممثّل "الائتلاف"، على إيجاد مساراتٍ بعيدة عن الأمم المتّحدة، ولم تكتفِ باستعادة حلب، بل فتحت طرقاتٍ دولية كانت مغلقة. وواهمٌ مَنْ يعتقد أنّ أميركا لم تكن راضيةً عن هذه الإجراءات، لأسباب عديدة، منها أنّ الإدارة الأميركية، بعد ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ثم جبهة النصرة، وعدم مقدرة المجتمع السوري على إنتاج قوى ديمقراطية وازنة يمكنها أن تكون بديلاً من النظام، أخذت تعيد حساباتها، وتخلّت عن دعم المعارضة عسكرياً، واكتفت بالعقوبات، وهي، حاليا، تمنح دولاً عربية، بقيادة السعودية طبعاً، فرصة للتطبيع، ليس فقط مع نظام الأسد، بل ومع إسرائيل.
نظام الأسد مُعتادٌ على رفض الإصلاح وتقديم التنازلات، يتقن إغراقَ الآخرين بالتفاصيل. ومع ذلك، توحي مُؤشّرات بأنّه يساير مطلقي المبادرة بتصرّفات إصلاحية، منها محاولة الأسد إقناع حزب البعث بالتخلّي عن تدخّله في المجتمع. وفي تصريح له أخيراً، قال إنّ من حقّ اللاجئين العودة إلى بلادهم، وإنّ الدولة ستُصدر عفواً يشمل كلّ المطلوبين، بالإضافة إلى تصريحات وزير الداخلية بخصوص عدم اعتقال أيّ شخص من دون أدلّة كافية.