مجلس الأمن ودارفور .. مسرحية في خمسة فصول
لم يُصغِ مجلس الأمن الدولي لطلب السودانيين المشرّدين في مخيمات النزوح، بإبقاء بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في إقليم دارفور (يوناميد)، إلى حين يستتب الأمن ويتحول اتفاق جوبا للسلام من حبر على ورق إلى حقيقة على الأرض. قرّر بالإجماع أنه حان وقت رحيل حفظة السلام، تاركين وراءهم أزيد من مليوني نازح، لا يجرؤون على العودة إلى ديارهم وأراضيهم، وقد استولى عليها مستوطنون مدجّجون بالسلاح. في ظاهر الأمر، يبدو لمتتبع الشأن السوداني أن مجلس الأمن قد أتمّ مهمته، ولم يدّخر جهدا لحماية المدنيين في هذا الإقليم، منذ دخلت الحركات المتمرّدة في مواجهة مسلحة مع نظام الرئيس السابق، عمر البشير، في ربيع 2003. لقد اتّخذ بالفعل عدة خطوات، واعتمد حزمة قرارات، اعتبرها بعضهم جادّة، في حين أن كل واحد منها لم يكن في واقع الأمر إلا فصلا من الفصول الخمسة لمسرحية دامت ستة عشر عاما.
انطلقت لعبة الخداع الأممي في صيف العام 2004، أي بعد أزيد من سنةٍ من هجوم النظام على القبائل غير العربية، وقَصْفِه مئات القرى في شمال دارفور، وتطويقها بدباباته واستباحة دم أهلها وعرضهم وأرضهم من طرف جيشٍ بلا رحمة، شكّلت مليشيات الجنجويد العربية رأس حربته. اضطر المجلس إلى الاستجابة لضغط تحالف "أنقذوا دارفور" الأميركي، الذي ضم أكثر من 190 منظمة دينية وسياسية وحقوقية، خاضت حملة مناصَرة لم تشهد أميركا لها مثيلا منذ حرب فيتنام. لم يكن في وسع إدارة الرئيس جورج بوش الابن آنذاك تجاهُل هذه الحملة، بعد أن انضم إليها مشاهير هوليوود.
مجلس الأمن يسند مهمة الحماية في دارفور لقواتٍ، إن قُدّر لها أن تنتشر، سيشترك فيها من قتل واعتدى على المدنيين
كان الخمس الكبار في مجلس الأمن وقتها متّحدين، إلى حد كبير، حول ملف السودان، وداعمين حكم البشير المتفاني في خدمتهم على حساب الشعب السوداني. كان يسهل استثمارات الصين واستغلالها نفط السودان وموارده، ويفتح لروسيا الأبواب الموصدة ليصبح السودان بوابتها إلى أفريقيا، ويخدم أميركا وحلفاءها الأوروبيين في "الحرب ضد الإرهاب". استفاد البشير من تزامن بداية حروبه في دارفور مع محادثات السلام بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان، منذ انطلاقتها في صيف 2002 إلى حين انتهائها باتفاق نيفاشا للسلام في يناير/كانون الثاني 2005. كانت أميركا تحابي النظام وتغازله، كي تضمن تسهيله انفصال جنوب السودان في العام 2011، وإن كان ذلك على حساب دارفور.
كل هذه الخدمات السديدة وضعت الخرطوم تحت حماية الخمس الكبار الذين سيوهمون العالم أنهم يقفون في وجه نظام البشير، في حين أنهم كانوا يساعدونه على البقاء، وارتكاب مزيد من الفظائع والإفلات من العقاب. تبدأ المسرحية في يوليو/تموز 2004 بتبنّي مجلس الأمن القرار 1556 الذي اعتبر مليشيات الجنجويد "طرفا" في النزاع، وكأنها كيان قائم بذاته، لا صلة له بالنظام الذي جيّشها وسلّحها ودفع رواتبها وأمرها بقتل المدنيين والاستيلاء على أراضيهم بعد تهجيرهم. نسب المجلس لـ"الجنجويد" كل الجرائم من "هجمات عشوائية ضد المدنيين، والاغتصاب، والتشريد القسري، وأعمال العنف، خاصة ما ينطوي منها على بُعد عرقي". تجاهل الخمس الكبار أن هذه المليشيات جزء من جيش عرمرم، يضم أيضا القوات المسلحة والشرطة وجهاز الأمن والمخابرات. وحسب توزيع محكم للأدوار، كان هجوم هذه القوات ينطلق غالبا بقصف جوي يستهدف القبائل غير العربية، وتدخل بعدها مسرح الجريمة القوات البرّية، بجيشها وشرطتها وأمنها وجنجويدها، يقتلون وينهبون ويحرقون ويغتصبون جنبا إلى جنب، ثم ينسحبون جميعاً في عرباتهم ومدرّعاتهم وخيلهم وجمالهم، لينسبوا بعدها جرائمهم لعناصر "متفلتة".
لم يتخذ مجلس الأمن أية إجراءات عقابية ضد الحكومة السودانية، ناهيك عن روسيا والصين، واكتفى بمنع اعتماد تقارير الخبراء، والتكتم على هذه الحقائق
غض القرار 1556 الطّرف عن كل هذه الحقائق المؤكدة، وطالب مجلس الأمن الحكومة السودانية بنزع سلاح الجنجويد، واعتقال قادتهم الذين "حرّضوا" على ارتكاب الفظائع. بهذه السردية الكاذبة، برّأ المجلس النظام، وأوكل إليه مهمة تطبيق العدالة على مليشياته، ثم حاول أن يبدو جادّا وصارما، فهدّده باتخاذ مزيد مـن الإجـراءات في حال عـدم امتثـاله لقراره. كان البشير يعلم أن الأعضاء الدائمين في المجلس غير جادّين في تهديداتهم، فمضى يؤسّس لدولة المليشيات، بالموازاة مع الأجهزة النظامية التي قرّر أن يهمّشها سنة بعد سنة. وبدل أن ينزع سلاح الجنجويد ويسرّحها، أدخل عددا كبيرا منها ضمن قوات "حرس الحدود" التابعة للجيش السوداني، ثم أصدر لاحقا قراراً خوّل "قوات الدعم السريع"، آخر نسخة للجنجويد وأخطرها، أن تصبح تحت إمرته. ولكي يضمن ولاء هذه المليشيات واستقلالها عن أجهزة الدولة، منحها النظام امتيازاتٍ تجارية وسمح لها بالاستيلاء على مناجم الذهب، إلى أن أصبح قائد الجنجويد، محمد حمدان دقلو، المدعو حميدتي، يدير شركة "الجنيد" لتعدين الذهب، ويجني ملايين الدولارات مما يقترفه في دارفور.
ازدادت الأوضاع سوءاً في هذا الإقليم، وواصل مجلس الأمن مسرحيته، وتبنّى القرار 1564 في سبتمبر/أيلول 2004، القاضي بإنشاء لجنة دولية للتحقيق في جرائم دارفور، أي الفصل الثاني من تمثيليته. بعد ثلاثة أشهر من تقصي الحقائق على الأرض، خلُصت اللجنة إلى أن الحكومة السودانية لم تنهج سياساتٍ بنيّة الإبادة الجماعية، إلا أن الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التي ارتكبتها الحكومة في دارفور لا تقل خطورةً عن الإبادة. ولكن اللجنة لم تستبعد أن يكون بعض الأفراد، بمن فيهم مسؤولون حكوميون، قد قاموا بأفعال بنيّة الإبادة الجماعية، فأوصت أن يحيل مجلس الأمن قضية دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية، وطالبته بأن ينظر في فرض عقوبات على السودان.
في ظل ضغوط ائتلاف "أنقذوا دارفور"، واستفحال جرائم النظام والمتمرّدين، تبنّى المجلس القرار 1593 في مارس/آذار 2005، وأحال ملف دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية. كان الفصل الثالث أكثر فصول المسرحية الأممية دراميةً، إذ بدت الخطوة كأنها أكثر قرارات المجلس جرأة والتزاما بإقرار العدالة. لعبت المحكمة دورها، وأصدرت مذكّرات توقيف بحق البشير، بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وإبادة جماعية، بالإضافة إلى مذكرات توقيف بحق متهمين آخرين. ولكن سرعان ما تبين للجميع أنه لا حول ولا قوة لهذه المحكمة التي لا تتوفر على آليةٍ لتوقيف المتهمين، وتنتظر أن يُسَلِّم المتهمون أنفسهم للعدالة الدولية، أو أن يتم اعتقالهم وتسليمهم من الدول الأعضاء في المحكمة. واتضح أيضا أن أميركا والصين وروسيا هم أكبر أعداء المحكمة، بدل أن يكونوا أحد أعضائها.
أوصت لجنة دولية أن يحيل مجلس الأمن قضية دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية
في الفصل الرابع من مسرحيته، يواصل المجلس جعجعته، ويعتمد في السنة نفسها القرار 1591، يفرض بموجبه على الحكومة السودانية حظر أسلحة جزئيا وعقوبات غير مجدية، إذ سمح للنظام بأن يشتري ويستخدم ما يشاء من الأسلحة في السودان، شريطة ألا يستعملها في دارفور، من دون أن يوفّر على الأرض آلية مستقلة ودائمة لرصد هذا الحظر العجيب. وفرض أيضا عقوباتٍ، أو بالأحرى تهديداتٍ، بحظر سفر وتجميد حسابات وأصول عدد من الأشخاص؛ عقوباتٍ رمزية لم تكن ذات أثر رجعي، ولم تحدث فارقا هي الأخرى. طفت على السطح فضائح حظر الأسلحة، عندما تسرّبت أكثر من مرة تقارير لجنة الخبراء المعنية برصد هذه العقوبات في السودان، تفيد بأن الحكومة السودانية تستعمل طائراتٍ حربية وصواريخ اشترتها من روسيا وبيلاروسيا، وذخائر اقتنتها من الصين. لم يتخذ مجلس الأمن أية إجراءات عقابية ضد الحكومة السودانية، ناهيك عن روسيا والصين، واكتفى بمنع اعتماد تقارير الخبراء، والتكتم على هذه الحقائق.
استمر النظام والمتمرّدون في اعتداءاتهم على المدنيين، في ظل الفشل المدروس لكل القرارات السابقة، ولم يبق في جعبة مجلس الأمن إلا أن يعتمد القرار 1769، وينشر بعثة حفظ السلام بالشروط التي أملتها عليه الخرطوم. دام الفصل الخامس والأخير من مسرحيته ثلاثة عشر عاما، وقف خلالها المجلس يتفرّج على نظام البشير وهو يهاجم قوات "يوناميد"، ويقتل حفظة السلام، ويشلّ حركتهم، ويتحكّم في كل تفاصيل عملهم ويعرقلها. وعلى الرغم من إعرابهم المتكرّر عن الذعر والقلق البالغ إزاء الوضع في دارفور، لم يستجب الخمس الكبار، أو أية دولة أوروبية، لطلبات "يوناميد" الملحّة، ولم يزودها أحدهم بالمعدات اللازمة، ولو بطائرة هليكوبتر واحدة تمكّنهم من رصد وضع المدنيين، والتدخل في الوقت المناسب لحمايتهم. منح المجلس "يوناميد" الحق في استخدام القوة بموجب الفصل السابع، لكنه لم يمنحها القوة.
استفاد البشير من تزامن بداية حروبه في دارفور مع محادثات السلام بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان
على الرغم من خذلان مجلس الأمن لها، ومن محاربة النظام لوجودها، وعلى الرغم من القهر والقتل الذي طاول موظفيها، ظلت البعثة الأممية تقوم بدورياتها اليومية، وتتفقد أحوال النازحين، وظلت مكاتبها تستقبل آلاف الفارّين من قصف النظام قراهم، وتضمّد جروح الناجين، بمن فيهم ضحايا الاغتصاب الجماعي والممنهج. واليوم وقوات "يوناميد" تحزم حقائبها، لم يعد للمشرّدين من أبناء القبائل غير العربية ملاذ، لم يعد في وسعهم إلا أن يحبسوا أنفاسهم، في انتظار أن تنشر حكومة عبد الله حمدوك القوات المشتركة التي أعلنت عنها منذ أزيد من ثمانية أشهر.
اليوم يُسدل الستار على آخر فصلٍ من فصول مسرحية مجلس الأمن، وتنجلي قمة سخريته، وهو يُسند مهمة الحماية في دارفور لقواتٍ، إن قُدّر لها أن تنتشر، سيشترك فيها من قتل واعتدى على المدنيين، من جيش البشير، والحركات المتمرّدة، ومليشيات القتل السريع بقيادة حميدتي الذي كان من المفترض أن يحاكم على ما ارتكبته القوات التابعة له من جرائم. اليوم يتضح أن مجلس الأمن لم يأبه في أي يوم بمصير المدنيين في دارفور، بقدر ما كان حريصا على حماية نظام البشير، وما زال حليفا لبقايا هذا النظام وأفوله.