هل الشرق الأوسط حقّاً على شفا حرب عالمية؟
منذ بداية الغزو الروسي أوكرانيا كثر الحديث، خاصة في منصّات التواصل الاجتماعي، عن احتمال اندلاع حرب عالمية ثالثة، وتجدّد بشكل لافت في أعقاب الردّ الصاروخي المُحتشم الذي شنّته إيران على إسرائيل يوم 1 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، بتنسيق مع واشنطن. وقد حذّر الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، في كلمة ألقاها في تجمّع انتخابي في ولاية ويسكنسن، من أن العالم قد يكون على شفا حرب عالمية ثالثة إذا اتسعت الاشتباكات في الشرق الأوسط بسبب الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى... ويجانب الرئيس الشّعبوي، المعروف بالكذب والتهويل والمبالغة، الحقيقة مرّةً أخرى، لعدة أسباب، أهمها أن توصيف الحرب العالمية يُطلق عادة على حروب واسعة النطاق، تقودها القوى العظمى في تكتلات، تشمل دولاً حليفة عديدة، وعدة مناطق جغرافية قد تمتد إلى عدة قارّات، في حين أنه ليس هناك احتمال لدخول روسيا والصين مواجهة مباشرة ضد الحلف الغربي الذي تقوده إسرائيل، في حروب تفتخر بأنها تقودها على سبع جبهات. فحتى إن جرى تصعيد المواجهة المسلحة بين هذا الحلف وإيران، فإن موسكو الغارقة في حرب أوكرانيا، وبكين الحريصة على النأي بنفسها عن الحروب وحروب الشرق الأوسط تحديداً، لن يجازفا بمصالحهما وأولوياتهما لإنقاذ إيران وباقي المنطقة التي لا تشكل بالنسبة لهما مصلحة وجودية تستدعي مواجهة الآلة العسكرية الغربية الجبارة التي تشارك في آخر حروبها الكولونيالية ضد العرب والمسلمين.
وصف العالمية بعيد عن مستقبل هذه الحرب التي لا ينطبق عليها وصف "حرب إقليمية" أيضاً، بقدر ما تتحقّق فيها شروط ما تُعرف بـ"الحرب الدولية"، فحسب أدبيات النزاع تقتصر الحروب الإقليمية، كحرب البلقان أو الحرب الإيرانية - العراقية، على منطقة جغرافية محدّدة، وقد تشمل دولاً مجاورة، أو أطرافاً داخل المنطقة الإقليمية، وتتميّز بعدم مشاركة مباشرة للقوى العظمى. في المقابل، تشمل الحروب الدولية، كحرب فيتنام، عدة دول من مناطق جغرافية مختلفة، وقد تتضمّن مشاركة قوى كبرى، على الرغم من أن القتال قد يظلّ منحصراً في مناطق محدّدة.
ولأن الأمر، كما يقول الكاتب الفرنسي ألبير كامو "الخطأ في تسمية الأشياء يزيد من بؤس العالم"، لا بد من توضيح أن الحرب التي تقودها إسرائيل ضد دول المنطقة وشعوبها دولية بامتياز، نظراً إلى انخراط قوى عظمى ولاعبين خارجيين كثر في تحالف إسرائيل الدولي الذي يضم بالأساس أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، القوى الراعية للاحتلال الإسرائيلي ومخطّط "الشرق الأوسط الجديد". منذ أطلقت إسرائيل شرارة حرب الإبادة في قطاع غزّة، تقف هذه الدول بجانبها، على الأرض وبشكل علني، إذ لا تكتفي واشنطن مثلاً بتقديم الدعم المالي والعسكري والدبلوماسي لإسرائيل، بل تشارك أيضاً في التخطيط للعمليات العسكرية في غزّة ولبنان واليمن وإيران وتساهم في تنفيذها. وبينما تحثّ على خفض التصعيد، تقود حلفاً عسكرياً دولياً ضد الحوثيين ضمّ في مطلع العام كلاً من بريطانيا وهولندا وكندا والنرويج وأستراليا. وبالنيابة عن إسرائيل، قادت واشنطن عملية التصدّي الدولي للهجومين الإيرانيين اللذين شنتهما في إبريل/ نيسان وأكتوبر/ تشرين الأول من العام الجاري. وإلى جانب تسخيرها أسلحة الدمار الشامل، على الأرجح، قدّمت أميركا لإسرائيل معلومات استخبارية مكّنتها من اغتيال قادة في حركة حماس وحزب الله وإيران.
استُدرجت إيران إلى ساحة المواجهة، ودخلتها مرغمةً، فور اقتناع النظام بأن أمنه ونفوذه في المنطقة، بل ووجوده أيضاً، أصبحوا على المحكّ
وعلى عكس الحربين الدوليتين اللتين قادتهما أميركا وبريطانيا ضد العراق، لا يُظهر الإعلام الغربي والعربي حجم الحشد العسكري الأميركي والأوروبي في البحر الأبيض المتوسط والخليج والبحر الأحمر، بما يوحى بأن إسرائيل، وإسرائيل وحدها، هي التي تخوض الحرب الدائرة، ويرسّخ أسطورة انتصاراتها على العرب والمسلمين. لكن الواقع، كما نتابعه اليوم، يؤكد أنه لولا هذا الحلف العسكري الضخم والواسع النطاق لما استطاعت دولة الاحتلال أن تعربد في المنطقة. ويكفي التذكير بأن أميركا وحدها نشرت ثلاث مدمّرات برمائية في شرق المتوسط، وأربع أخرى في البحر الأحمر، بالإضافة إلى غوّاصة نووية باليستية، ومجموعة من حاملات الطائرات، وأسراب من المقاتلات، وعشرات السفن الحربية، إلى جانب نشر جنودها في "الشرق الأوسط" الذين يقدّر عددهم بحوالي 50 ألف جندي في المنطقة.
وبحسب تقارير موقع الصحافة الاستقصائية البريطاني UK declassified، فقد نشرت بريطانيا حاملات طائرات وسفناً حربية في شرق المتوسط، ونفّذت مائة رحلة تجسّس فوق غزّة لدعم المخابرات الإسرائيلية، ويرجّح استمرار هذا الدعم في سماء لبنان. كما نشرت لندن طائرات "تايفون" لاعتراض الطائرات الإيرانية المسيّرة والصواريخ الباليستية، وشاركت في الضربات الجوية ضد الحوثيين في البحر الأحمر، واعترضت الطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية الإيرانية من قاعدة سلاح الجو الملكي في أكروتيري بقبرص، بالإضافة إلى تدريبها الجيش الإسرائيلي على أراضيها، ووجود فريق تجسّس بريطاني في إسرائيل.
يؤكّد الواقع، كما نتابعه اليوم، أنه لولا هذا الحلف العسكري الضخم والواسع النطاق لما استطاعت دولة الاحتلال أن تعربد في المنطقة
أما فرنسا، فقد زودت إسرائيل بطائرات مسيّرة مسلّحة من طراز هيرميس 900 استخدمت في حملة إبادة الفلسطينيين في غزّة، بحسب الموقع الفرنسي للصحافة الاستقصائية Disdclose، وأرسلت منذ مطلع السنة الجارية حاملة مروحيات برمائية وفرقاطتين منتشرتين قبالة جزيرة قبرص، إضافة إلى نشرها عتاداً عسكرياً في ضفاف البحر الأبيض المتوسط لم تفصح باريس عن تفاصيله، في حين أنها لم تخفِ مشاركتها في اعتراض الصواريخ والطائرات المسيّرة الإيرانية، انطلاقاً من قاعدتها في الأردن.
ودعمت ألمانيا إسرائيل بالطائرات المسيّرة "هيرون تي بي" لاستخدامها في حربها ضد المدنيين في غزّة، ويُرجح أنها مستمرّة في دعم الحملة الإسرائيلية ضد لبنان وباقي شعوب المنطقة. المؤسف أن هذا التحالف الدولي ضد العرب والمسلمين لا يتوقف عند المحور الراعي للاستعمار الصهيوني، بل تشارك فيه دول عربية وأخرى ذات أغلبية مسلمة، مثل أذربيجان وكازاخستان ونيجيريا التي توفر لإسرائيل أكبر حصّة من احتياجاتها النفطية، التي لولاها لما تحركت آلة الحرب الإسرائيلية؛ النفط الذي تسمح تركيا بتدفق جزء كبير منه عبر أراضيها، رغم مقاطعتها التجارية إسرائيل وشعاراتها الجوفاء.
هذه بعض الحقائق التي لا تلخص بشكل شامل تفاصيل هذه الحرب الدولية بانخراط مباشر لدول هذا الحلف الأورو - أميركي الصهيوني في مشروع "الشرق الأوسط الجديد"؛ حرب تقدَّم أحياناً على أنها حرب وكالة تخوضها إسرائيل بالنيابة عن حلفائها، في حين أنها حربٌ بشراكة كاملة معهم. وهذا ما قد يجعل روسيا، أقرب الحلفاء إلى إيران، تكتفي بدعم عسكري غير مباشر إن شنّت إسرائيل هجوماً واسعاً على طهران، رغم تكثيف التعاون العسكري بين موسكو وطهران منذ اجتياح روسيا أوكرانيا، ورغم أن تحالفهما قد يُكلّل قريباً بتوقيع معاهدة تعاون شامل بين البلدين.
روسيا، أقرب الحلفاء إلى إيران، ستكتفي بدعم عسكري غير مباشر إن شنّت إسرائيل هجوماً واسعاً على طهران
صحيحٌ أن إيران، التي ولجت مجموعة البريكس، ويجمعها بكل من روسيا والصين مجموعة معاهدات اقتصادية واستراتيجية، وبلغت الاستثمارات الصينية في إيران 400 مليار دولار على مدى ربع القرن المقبل، لكن هذه المصالح المشتركة لا ترقى إلى مستوى وجودي يجعلها تفتح جبهة آسيوية، وإطلاق شرارة حرب عالمية ثالثة في وقت لم تحسم روسيا بعد حربها ضد أوكرانيا، بينما تنشغل الصين باحتواء تايوان ومواجهة الفيليبين في سلسلة مواجهات في بحر الصين الجنوبي، مجالها الحيوي. أقصى ما يمكن أن تقوم به موسكو وبكين دعم طهران اقتصادياً وعسكرياً ودبلوماسياً، وأن يستمرّا في الدفاع عن حقّ إيران في الدفاع عن سيادتها، والتصدّي لأي محاولة لتمرير قرار يدينها في مجلس الأمن.
استُدرجت إيران إلى ساحة المواجهة، ودخلتها مرغمة، فور اقتناع النظام بأن أمنه ونفوذه في المنطقة، بل ووجوده أيضاً، أصبحوا على المحكّ، بعد ان استباحت دولة الاحتلال سيادتها في سورية وطهران، وألحقت ضربات موجعة بحزب الله، درعها الواقي وأولى خطوطها الدفاعية. في مواجهة هذه الحرب الدولية، تعوّل إيران على ولاء أذرعها الشيعية في المنطقة، وعلى قدراتها العسكرية المتزايدة وحنكتها السياسية، وامتلاكها ورقة حرب النفط والمجاري المائية التي تجعل الحلف الصهيوني يحسب لها ألف حساب.