ما يعنيه فوز بايدن للقضية الفلسطينية
أصدر مرشح الحزب الديمقراطي للرئاسة الأميركية، جو بايدن، في 29 أغسطس/ آب 2020، برنامجًا شاملاً يحدّد خطته للشراكة مع المجتمع العربي الأميركي، تضمن سياسته الخارجية تجاه مجموعة من قضايا المنطقة العربية، بما فيها القضية الفلسطينية. وأوضح البرنامج الذي حمل عنوان "جو بايدن والمجتمع العربي الأميركي: خطة للشراكة" مواقف بايدن السياسية من حل الدولتين، وضم مناطق واسعة من الضفة الغربية المحتلة، والتوسع الاستيطاني، وتوقف المساعدات الأميركية المقدمة للشعب الفلسطيني، وتنامي الأزمة الإنسانية والاقتصادية في غزة، وإغلاق القنصلية الأميركية في القدس، وإغلاق مكتب بعثة منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، إضافة إلى عمل حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها في الولايات المتحدة.
خلال عضويته في مجلس الشيوخ الأميركي عن الحزب الديمقراطي في الفترة 1973 - 2009، كان بايدن يُعدّ من المؤيدين لإسرائيل داخل الحزب. منذ وصوله إلى المجلس، حرص بشكل متكرر على زيارة فلسطين المحتلة من أجل الالتقاء بمسؤولين إسرائيليين للتعبير عن دفاعه الشرس عن إسرائيل، وكانت نقطة البدء بالنسبة له زيارته الأولى للقاء رئيسة الوزراء الإسرائيلية، غولدا مائير عقب انتخابه عضوًا في مجلس الشيوخ عام 1973. وكما حرص بايدن خلال مسيرته السياسية في مجلس الشيوخ التي توّجها برئاسته لجنة العلاقات الخارجية في المجلس في الفترة 2007 - 2009، على التشديد بشكل متكرّر على أهمية وجود إسرائيل في المنطقة العربية، من أجل حماية المصالح الأميركية وحماية أمن اليهود في العالم، بوصفها وطنًا قوميًا آمنًا ليهود العالم.
خلال عضويته في مجلس الشيوخ عن الحزب الديمقراطي 1973 - 2009، كان بايدن يُعدّ من المؤيدين لإسرائيل داخل الحزب
وعقب انتهاء مسيرته السياسية في مجلس الشيوخ، عمل بايدن نائبًا لرئيس الولايات المتحدة الأميركية الأسبق، باراك أوباما، في الفترة 2009 - 2017، وبدا بأنه يسعى، خلال هذه الفترة، إلى إمساك العصا من منتصفها في تعامله مع إسرائيل. فمن جهةٍ، عُرف بايدن بانتقاداته الشديدة لإسرائيل بسبب استمرار التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية، وإفشالها مساعي الإدارة الأميركية في تحقيق ما يُدعى "السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين"، وأهمها التي وجهها لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في إبريل/ نيسان 2016 أمام مجموعة "جي ستريت" الموالية لإسرائيل، بالإشارة إلى دور نتنياهو في تعطيل عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين وقيادة إسرائيل في الطريق الخاطئ. من جهة ثانية، يُعدّ بايدن من أبرز مؤيدي إسرائيل في إدارة أوباما، ففضلًا عن عدّه حلقة الوصل بين الإدارتين، الأميركية والإسرائيلية، بعد توتر العلاقات بين الطرفين إثر توقيع الولايات المتحدة ومجموعة القوى الكبرى اتفاقًا مع إيران حول برنامجها النووي، لعب بايدن دورًا مهمًا في تقديم إدارة أوباما أكبر هدية في تاريخ العلاقات الأميركية – الإسرائيلية، عندما حصلت إسرائيل على قرابة 38 مليار دولار من الدعم العسكري على مدار عشر سنوات، وبارتفاع ملحوظ عن الحزمة التي سبقتها، والتي بلغت نحو 30 مليار دولار.
أثناء عمله نائب أوباما، عُرف بايدن بانتقاداته الشديدة لإسرائيل بسبب استمرار التوسع الاستيطاني
وعلى الرغم من أهمية مراجعة مواقف بايدن وتصريحاته خلال مسيرته السياسية، بوصفه عضوًا في مجلس الشيوخ ثم نائبًا للرئيس الأميركي، للحصول على مؤشراتٍ بشأن سياسته المتوقعه تجاه القضية الفلسطينية في حال فوزه بانتخابات الرئاسة، إلا أن الأمور لا تبدو بهذه البساطة، وكأنها مسلمات أبديّة، فهناك عوامل عديدة تدخل في تشكيل سياسة الولايات المتحدة الخارجية. ولهذا، من الأفضل التركيز على تقديم تقييم عن سياسته التي عبّر عنها في برنامجه، وتمثل سياسة الحزب الديمقراطي، للحصول على بعض المؤشرات على سلوك بايدن السياسي المتوقع تجاه القضية الفلسطينية في حال فوزه بالانتخابات.
في الجزء الخاص بالقضية الفلسطينية، تفيد الخطة، وبإيجاز، بأن بايدن سيبقى ملتزمًا بحل الدولتين، وعلى أساس دولتين متجاورتين قابلتين للحياة، وتعيشان معًا في سلام وأمن واعتراف متبادل. وكما يشير إلى أنه يعارض أي خطواتٍ أحادية الجانب من أي جانب تقوض حل الدولتين، وكذلك يعارض الضم والتوسع الاستيطاني. ويشدّد على أنه سيتخذ خطواتٍ فورية، لاستعادة المساعدات الاقتصادية والإنسانية للشعب الفلسطيني، بما في ذلك مساعدة اللاجئين الفلسطينيين. وإنه سيعمل على معالجة الأزمة الإنسانية المستمرة في غزة، وسيعمل على إعادة فتح القنصلية الأميركية المغلقة في القدس الشرقية، ومكتب بعثة منظمة التحرير المغلق في واشنطن. وأخيرًا، يقول بايدن إنه يدين الدعوات القائمة لإقرار مشاريع قوانين في الولايات المتحدة تدعو إلى مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض عقوبات عليها، وذلك لأنه لا يدعم أي جهود لتجريم حرية التعبير.
تفيد خطة بايدن بأنه سيبقى ملتزمًا بحل الدولتين، وعلى أساس دولتين متجاورتين قابلتين للحياة
وفي السياق نفسه، يبدو من المفيد أيضًا رصد بعض مواقف بايدن من قضايا متفرقة ذات صلة بالقضية الفلسطينية، لم تتضمنها خطته للسياسة الخارجية. ففي إبريل/ نيسان الماضي، تعهّد بإبقاء السفارة الأميركية في إسرائيل في موقعها الجديد في القدس، وأن يسعى، في الوقت نفسه، إلى إعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية. وكذلك، رحب بايدن وشجع "اتفاق السلام" بين إسرائيل والإمارات في أغسطس/ آب الماضي، إذ قال "اليوم اتخذت إسرائيل والإمارات خطوة تاريخية لرأب الصدوع العميقة في الشرق الأوسط"، وأضاف "إسرائيل يمكن أن تكون وستظل شريكًا إستراتيجيًا واقتصاديًا قيمًا لكل من يرحب به".
إضافة إلى ذلك، تعطينا خطة بايدن الموجهة إلى إسرائيل والمجتمع اليهودي، وعنوانها "جو بايدن والمجتمع اليهودي: سِجل وخطة للصداقة والدعم والتحرّك" مؤشّرات عن طبيعة فهم بايدن لإسرائيل. ففي هذه الخطة المنشورة مطلع أغسطس/ آب الماضي، يشدّد بايدن على دوره المهم الذي قام به في خدمة إسرائيل، إبّان مسيرته السياسية عضوًا في مجلس الشيوخ، ثم نائبًا للرئيس الأميركي، ولا سيما دوره في رفع قيمة المساعدات العسكرية إلى إسرائيل، وتزويده إسرائيل بواحدةٍ من أهم أنظمة الدفاع الجوي بالصواريخ المعروفة باسم "القبة الحديدية". كما شدد بايدن في الخطة على دعمه والتزامه بمحاربة معاداة السامية وحماية الدولة اليهودية والشعب اليهودي والقيم اليهودية، وإن بدا لنا، عند قراءة الخطة، بأن تشديد بايدن على دعمه والتزامه بحماية أمن إسرائيل، وتعزيز الشراكة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، جعله يجهل الفرق بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية، والفرق بين الدولة اليهودية والشعب اليهودي والقيم اليهودية.
يشدّد بايدن على دوره المهم الذي قام به في خدمة إسرائيل، إبّان مسيرته السياسية عضوًا في مجلس الشيوخ، ثم نائبًا للرئيس الأميركي
استنادًا إلى كل ما سبق، قد يكون نتنياهو قلقًا جدًا من خسارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، سيما أنه الرئيس الذي منح إسرائيل أفضل ما تتمنّى في تاريخ علاقتها مع الولايات المتحدة، والرئيس الذي لا يزال نتنياهو يتطلع إلى العمل معه مجددًا، من أجل الحصول على مزيد من القرارات المنحازة لإسرائيل ومشروعها الاستعماري في فترة الرئاسة الثانية. أما الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، فقد يكون فرحًا جدًا في حال خسارة ترامب، وهو الذي رفض مبادرته للسلام، وقال عن الدولة التي منحه إياها ترامب بأنها تشبه "الجبنة السويسرية"، وأنها لا تحقق السيادة للشعب الفلسطيني.
في المقابل، قد لا يكون نتنياهو منزعجًا جدًا في حال فوز بايدن، فعلى الرغم من أن الأخير لن يكون كترامب بالنسبة لنتنياهو وإسرائيل، إلا أن ذلك لا يلغي دعم بايدن ومساندته إسرائيل، وهو الذي يصف نفسه بصديق إسرائيل وحليفها منذ أكثر من 40 عامًا. ما يعني أن بايدن قد يكون أفضل مرشحي الحزب الديمقراطي في الوقت الحالي بالنسبة لنتنياهو وإسرائيل، وهو بالتأكيد أفضل من بيرني ساندرز. وهذا يعني أيضًا أن بايدن يعدّ أفضل فرصة لتثبيت قبول الديمقراطيين، لأن تبقى القدس عاصمةً لإسرائيل، وأن تبقى السفارة الأميركية فيها، وأن يبقى الجولان المحتل تحت السيادة الإسرائيلية، وأن يصبح التحالف العربي مع إسرائيل قبل ضمان الفلسطينيين حقهم العادل أمرًا مرحبًا به في البيت الأبيض.
قد يكون نتنياهو قلقًا جدًا من خسارة ترامب، سيما أنه الرئيس الذي منح إسرائيل أفضل ما تتمنّى في تاريخ علاقتها مع الولايات المتحدة
زِد على ذلك، يعي نتنياهو أن بايدن في حال فوزه، وإن كان مزعجًا بعض الشيء لإسرائيل، بسبب رغبته بإعادة الفلسطينيين والإسرائيليين إلى طاولة المفاوضات على أساس حل الدولتين، ومطالبته إسرائيل بوقف الضم والتوسع الاستيطاني، لكن هذا الإزعاج سيبقى من دون أي عواقب واضحة على إسرائيل. وعلى الرغم من ذلك، سيبقى نتنياهو متخوفًا من سلوك بايدن، سيما من موقفه تجاه إيران والاتفاق النووي معها، والتصعيد العسكري الإسرائيلي المتكرر ضد غزة ومناطق محددة توجد فيها القوات الإيرانية والتنظيمات القريبة منها في لبنان وسورية والعراق.
أما الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الذي بات يعي أنه من الخطأ الانحياز المفرط تجاه الولايات المتحدة وحدها، في حين تكون الشراكة مع المجتمع الدولي ومنظمات المجتمع المدني في العالم بشكل عام، يبدو أنه سيكون فرحًا ومرحبًا بفوز بايدن. وقد بدا ذلك واضحًا في إشادة مسؤولين فلسطينيين عديدين بموقف بايدن من الضم والاستيطان. وقد يتصل ذلك مع انفتاح السلطة الفلسطينية أخيرا للعودة إلى مسار التسوية السياسية والمفاوضات، ففي أواخر أغسطس/ أب الماضي، صرّح عباس إنه مستعد للعودة إلى طاولة المفاوضات مع الإسرائيليين، وعلى أساس حل الدولتين، في حال توفر رعاية دولية. وهذا يعني أن السلطة الفلسطينية، في حال فوز بايدن، المؤيد لحل الدولتين، فإنها من المرجّح أن تعود إلى فتح بابٍ لم يُغلق أصلًا، وهو باب التسوية والمفاوضات مع إسرائيل.
سيبقى نتنياهو متخوفًا من سلوك بايدن، سيما من موقفه تجاه إيران والاتفاق النووي معها، والتصعيد العسكري الإسرائيلي المتكرر ضد غزة
هكذا، إذن، وعلى الرغم من صعوبة توقع ما يمكن أن تكون عليه سياسة بايدن وإدارته تجاه القضية الفلسطينية، بدا أن ثمة مجموعة من المؤشرات الواضحة الواجبة مراعاتها في التفكير بماذا يعني فوز بايدن للصراع مع إسرائيل؟ وما يعزز ذلك، أن بايدن لا يُعدّ قادمًا جديدًا إلى السياسة الأميركية، وأنه لا يحمل مشروعًا ثوريًا داخل مؤسسة الحزب الديمقراطي.
وأخيرًا، الخذلان الذي تعرّض له الفلسطينيون مع الإدارات الأميركية منذ بدء الصراع مع المستعمِر الإسرائيلي وبدا أكثر وضوحًا في ظل إدارة ترامب، من المرجح أن يتعزّز في السنوات القريبة المقبلة، إذ لا يبدو ثمة أفقٌ واضحٌ لإيجاد إدارة أميركية تضمن للفلسطينيين حلًا عادلًا يضمن أبسط حقوقهم. على الرغم من ذلك، يبقى هامش ضئيل جدًا للفلسطينيين يمكن من خلاله العمل مع إدارة بايدن، وبلا شك سيكون أفضل من هامش العمل مع ولاية ثانية لترامب، بشرط أن يعمل الفلسطينيون على إعادة تعريف نضالهم خارج وهم حل الدولتين، وباتجاه مقاومة واقع دولة الفصل العنصري القائمة على الأرض، وعلى أن تكون نقطة البدء هي إستراتيجية نضالية موحدة، هدفها أولوية التحرّر من الاستعمار الإسرائيلي، ومرتكزاتها قيم الحرية والعدالة والمساواة.