لماذا كل هذا التصعيد الإسرائيلي في فلسطين؟
رفعت سلطات الاحتلال الإسرائيلي، في الشهرين الأخيرين، من حدّة سياستها الممنهجة بإعدام الفلسطينيين وقتلهم عمدًا في مختلف أنحاء فلسطين المحتلة. وصادقت على بناء أكثر من أربعة آلاف وحدة استيطانية جديدة في الضفة الغربية، بما فيها القدس، على الرغم من معارضة الولايات المتحدة. كما أمعنت بطريقة فجّة في استفزاز مشاعر الفلسطينيين، بدعوتها وزراء خارجية الولايات المتحدة ومصر والمغرب والإمارات والبحرين للالتقاء في كيبوتس "سديه بوكير" في النقب، واقتحامها المسجد الأقصى وباحاته خلال شهر رمضان وتدميرها بعض مقتنياته، وتقييدها وصول المسيحيين للاحتفال بسبت النور، بينما فتحت المجال للجماعات اليمينية الصهيونية لاقتحام باحات المسجد والتهديد بذبح القرابين بشكل غير معهود، قبل أن تتدخل لمنع حدوث هذه الطقوس. وكذلك تقتحم بشكل شبه يومي مدن الضفة الغربية ومخيماتها وقراها، وتشتبك بشكل مسلّح مع مقاومين فلسطينيين، في مشهد يعود بنا إلى أحداث الانتفاضة الفلسطينية الثانية مطلع الألفية الثالثة.
وبعد مشهد اغتيال الصحافية الفلسطينية في قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة، في صباح 11 مايو/ أيار 2022، في مدينة جنين، واعتداء سلطات الاحتلال على مشيعي أبو عاقلة أمام المستشفى الفرنسي في القدس، وتكرار المشهد نفسه مع جنازة الشهيد وليد الشريف في بلدة الطور شرق القدس المحتلة، أصبح وقف إسرائيل وطبقتها السياسية الحاكمة عن ارتكاب كل هذه الجرائم الفظيعة المنظمة بحق الفلسطينيين أمرًا يستوجب تدخلًا عاجلًا من المجتمع الدولي، لا سيما أن هذه الاغتيالات وما تبعها ترافقَت مع دعم واضح من الطبقة السياسية والعسكرية يُبرر لجنود الاحتلال أفعالهم ضد الفلسطينيين.
أما عن أسباب كل هذا التصعيد الإسرائيلي في فلسطين، فهنالك على الأقل إجابة واضحة عن هذا السؤال، أن اليمين الصهيوني الجديد في إسرائيل، الذي يضم الأحزاب اليمينية، والأحزاب الدينية الحريدية، والأحزاب الدينية القومية، ومعسكر الجنرالات الصهيوني، والمستوطنين المتطرّفين الذين أصبحوا أعضاء في الكنيست، رسّخ أعمدته في معادلة الحكم في إسرائيل، فمجتمع المستوطنين في العموم، الذي بات أكثر يمينيةً وتطرّفًا وعدوانيةً ضد الفلسطينيين من أي وقتٍ مضى، لن ينتج إلا أحزابًا على صورته. وحتى أحزاب اليسار والوسط الصهيونيين، عندما قرّرت الدخول في معادلة الحكم، نجدها تحالفت مع أحزاب اليمين لتمكينه من تأليف حكومة. ولا يعني انتهاء المأزق السياسي والحزبي الذي يشهده الكنيست في الأعوام الأخيرة بالضروة تراجع مكانة اليمين الصهيوني المهيمن على السياسة الإسرائيلية، إذ يُلاحظ أن هذا اليمين فرض هيمنته على مفاصل عديدة في الدولة ومؤسساتها البيروقراطية كافة.
الجيل الفلسطيني الجديد يقدّم لنا دلائل على دخول النضال ضد إسرائيل مرحلة جديدة
ولكن يبدو أن ثمة أسباباً أخرى مستجدّة تحدُث، بالإضافة إلى ترسخ مكانة اليمين الصهيوني في إسرائيل، والتي تجعل سلطات الاحتلال تصعّد عدوانها اليومي ضد الفلسطينيين. أولًا، منذ خطف مستوطنين متطرّفين الطفل الفلسطيني محمد أبو خضير وقتله في يوليو/ تموز 2014، وما تبعها من عدوان إسرائيلي على قطاع غزة في الشهر نفسه، والعمل النضالي الفلسطيني يقدّم لنا دلائل واضحة على دخوله مرحلة جديدة، ترتكز ملامحه على سماتٍ متباينةٍ ومتقاطعة في الوقت نفسه. صحيحٌ أن ملامح هذا النضال بدأت واستمرت ضمن طابع فردي بقيام شبان فلسطينيين من الضفة الغربية والقدس والأرض المحتلة عام 1948 بعمليات فدائية في إسرائيل، لكن هذا النضال يتطوّر بشكل مفاجئ ليصبح حالة جماعية شعبية، ومن أبرز الأمثلة على ذلك الهبّة الشعبية 2015، وهبّة البوابات الإلكترونية 2017، وهبّة باب الرحمة 2019، وهبّة الشيخ جراح 2021. وصحيح أن ملامح هذا النضال تتسم بأنها حالة نضالية متقطعة غير مستمرّة كالتي برزت في الانتفاضتين الأولى والثانية، وهي التي تخفت تارّةً ثم تظهر لتصبح مركزًا للحدث السياسي تارّةً أخرى. ولكن يمكن القول صراحة إن هذا الفعل المقاوم مستمرّ لم يتوقف منذ عام 2014. وأخيرًا، صحيحٌ أن هذا الفعل النضالي يتسم بأنه غير منظّم، فهو من خارج منظومة القوى والفصائل الفلسطينية ومتجاوز لها، لكن خلفيات هؤلاء الشبّان الذين يقودون هذا الفعل النضالي وسلوكهم تدلّ على أنهم غير بعيدين عن ذلك، وخير دليلٍ على ذلك "كتيبة جنين"، التي ظهرت إلى العلن بعد الهبّة الشعبية في 2021، وتضم شبانا مقاومين من عدد من القوى والفصائل الفلسطينية. في الواقع، وضعت الطريقة التي يتسم بها النضال الفلسطيني منذ عام 2014 تاركًا خلفه الطريقة التي ناضل بها الفلسطينييون في الانتفاضتين، الأولى والثانية، المستعمِر الإسرائيلي أمام حقيقة واضحة، أن الجيل الفلسطيني الجديد يقدّم لنا دلائل على دخول النضال ضد إسرائيل مرحلة جديدة، وأن هذا النضال الذي جاء من خارج حساباتهم السياسية والأمنية أربكهم وأفقدهم توازنهم في إدارة المعركة مع الفلسطينيين، وفرض عليهم هذا النوع من التصعيد ضد الفلسطينيين.
انعكس ضعف السلطة الفلسطينية في أدائها وظائفها السياسية والاقتصادية على أدائها وظائفها الأمنية المرتبطة بحماية أمن المحتل ومستوطنيه
ثانيًا، بموازاة بروز ملامح النضال الفلسطيني الجديد، طرأ تغيّر كبير أيضًا في نظرة الحكومة الإسرائيلية تجاه السلطة الفلسطينية، والاعتماد الكامل عليها في إدارة الفلسطينيين، وطرق التعاون والتنسيق معها. حتى إبريل/ نيسان 2014، كانت إسرائيل تفاوض الفلسطينيين على أساس خطّة أعدها وزير الخارجية الأميركي جون كيري، تتضمّن مشروع "اتفاق إطار" لإحلال تسوية سياسية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي وفق مبدأ "حل الدولتين". اليوم، تعهد رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينت، في أكثر من مرّة، برفضه إقامة دولة فلسطينية، ورفضه اتفاق أوسلو، ورفضه عودة المفاوضات السياسية، ورفضه لقاء أيٍّ من قادة السلطة الفلسطينية. بالتزامن مع ما تعرّضت له السلطة الفلسطينية إبّان فترة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، سياسيًا واقتصاديًا وماليًا، وانعكاسات ذلك على ما تواجهه اليوم، بسبب المقاربة التي تعتمدها الإدارة الأميركية الحالية بتهدئة الصراع، بدلًا من إيجاد حلول حقيقية له، باتت السلطة الفلسطينية ضعيفة هشّة مرتبكة في سياساتها وغير قادرة على إدارة أزماتها المتتالية. وهذا حقيقةً يفسّر تلاشي قدرة السلطة الفلسطينية وضعفها في التعامل مع ملفاتٍ متتابعةٍ كتفشي "كوفيد – 19"، وتأجيلها الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وقتلها الناشط الفلسطيني نزار بنات، وخسارة مرشّحيها في البلديات الرئيسة في الضفة الغربية، وتعاظم أزمتها الاقتصادية والمالية، وغير ذلك.
وقد انعكس ضعف السلطة الفلسطينية في أدائها وظائفها السياسية والاقتصادية على أدائها وظائفها الأمنية المرتبطة بحماية أمن المحتل ومستوطنيه. وهذا تحديدًا يفسّر تدخل سلطات الاحتلال للتعامل مع عمليات أمنية وعسكرية كانت السلطة الفلسطينية تقوم بها في أوقات سابقة. ولعل العمليات الأمنية والعسكرية التي تقوم بها سلطات الاحتلال في داخل الضفة الغربية من أبرز الأمثلة على ذلك، لا سيما ملاحقتها الشبان الفلسطينيين الذين ينفذّون عمليات في إسرائيل، وبحثها عن الأسرى الفلسطينيين الذين حرّروا أنفسهم من سجن جلبوع، ومطاردتها شبان "كتبية جنين" واشتباكها بشكل مسلح معهم في داخل مخيم جنين. في الواقع، أفسحت الطريقة التي تتعامل بها سلطات الاحتلال مع الفلسطينيين في الضفة الغربية (بدلًا من السلطة الفلسطينية) المجال لإعدام الفلسطينيين وقتلهم، وما يعزّز ذلك وجود تعليمات جديدة صدرت في أواخر العام المنصرم تتيح لجيش الاحتلال إطلاق النار على الفلسطينيين من دون وجود مبرر.
السبب الثالث والأخير مرتبط بالحكومة الإسرائيلية التي يرأسها نفتالي بينت، والتي تعاني ضعفًا كبيرًا سببه التنافس بين قادة الائتلاف السياسي، وضغوط المعارضة السياسية التي قد تقود إلى فقدان الحكومة أغلبيتها البرلمانية، وتحييد قدرتها على الهيمنة على السلطة، وجرّ إسرائيل مرّة أخرى إلى دوامة الانتخابات. وكلما استمرّ تخبّط بينت وائتلافه الهشّ في التعامل مع الملفات العالقة، زادت احتمالات التصعيد ضد الفلسطينيين.
تصعيد بينت يفرض علينا النظر إلى سياسته بوصفها سياسة "تصعيد الصراع" بدلًا من "تقليص الصراع" كما يدّعي
تعاني هذه الحكومة ضعفًا في قدرتها تحقيق أي إنجاز سياسي أو اقتصادي في الملفات العالقة، لا سيما التغلب على الانقسام السياسي داخل مجتمع اليمين الإسرائيلي، وضعف الشرعية السياسية لحكومته وفقدان الثقة بها، وضعف قدرته التعامل مع التداعيات الصحية والاقتصادية لتفشي "كوفيد – 19"، وفشل أطروحته القائمة على "تقليص الصراع"، وعدم توسّع دائرة البلدان العربية والإسلامية التي ترغب بتطبيع علاقتها مع إسرائيل، وضعف قدرته على تحقيق تقدم في التفاهم مع واشنطن بخصوص الملف النووي الإيراني، وفشل مبادرته الوساطة بين روسيا وأكرانيا. زد على ذلك، تملك هذه الحكومة مقاربةً في التعامل مع المستوطنين المتطرّفين تختلف عن مقارباتٍ كانت قائمة في حكومات اليمين السابقة. فعلى الرغم من أنه يرأس حزباً يحمل اسم "يمينا"، ويعدّ أول زعيم حزب يميني ديني متشدّد يتولى رئاسة الحكومة في تاريخ إسرائيل، فإن ثمة جماعات دينية وأحزاب سياسية يمينية توجّه له انتقادات عديدة لمخالفته التعاليم الدينية اليهودية، وتخالفه في توجهاته السياسية، وهذا ما يفسّر انسحاب النائبة اليمينية الإسرائيلية عيديت سيلمان من الائتلاف الحاكم في الشهر المنصرم (إبريل/ نيسان). ومن المحتمل جدًا أن ترتفع حدّة التصعيد الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، فبينت الذي يعاني ضعفًا في الخبرة السياسية، وضعفًا في القدرة على إدارة مجتمع المستوطنين، من الممكن أن يستغل تركيز المجتمع الدولي على الغزو الروسي لأوكرانيا للتفكير بخياراتٍ تصعيديةٍ أخرى ضد الفلسطينيين، على الرغم من الضغط الأميركي، فهو يعتقد أن هذه الظروف تمثل فرصةً ذهبيةً للمحافظة على بقاء ائتلافه الحكومي في السلطة. وهذا يفرض علينا النظر إلى سياسة بينت بوصفها سياسة "تصعيد الصراع" بدلًا من "تقليص الصراع" كما يدّعي.