ما هو العيب؟
قبل عدة أعوام، عرفت مصر، للمرة الأولى، ظاهرة منع المحجّبات من دخول بعض الشواطئ الخاصة. وتكرّر المنع مرات عدة في أماكن أخرى، سياحية وترفيهية. حتى وصل الأمر، قبل شهور، إلى منع أحد المطاعم دخول فتاتين محجبتين، ليس بسبب الحجاب، وإنما لارتدائهما عباءة عربية تقليدية. وقبل عام في مصر أيضاً، وبّخ مدير مدرسة ابتدائية تلميذةً لا يزيد عمرها عن عشرة أعوام، بداعي عدم ارتدائها الحجاب. ومنذ أيام، تعرّضت طالبة جامعية للسخرية من المراقبين في لجنة الامتحان، بسبب ارتدائها فستاناً من دون بنطال تحته.
هذه الوقائع مجرّد أمثلة لما تشهد مصر من شقاق مجتمعي بشأن بعض السلوكيات الفردية. صحيحٌ أنه لا يزال محصوراً في مواقف فردية، يرى أصحابها أنهم مسؤولون عن تطبيق الفضائل أو تعميم الحريات، غير أن هذا يمثل بذاته مؤشّراً شديد الخطورة إلى اتساع الفجوة المجتمعية بين المصريين، ليس بالمنظور الطبقي المتعلق بالإمكانات والموارد المتاحة والسلوك الإنفاقي أو الاستهلاكي لكل طبقة، وإنما بمعيار التوافق العام أو الضمير الجمعي، حيث لم يعد من الممكن الحديث عن نسق ثقافي واحد، يجمع بين المصريين، أو منظومة قيمية محل إجماع، تحكم السلوك المجتمعي لكل الشرائح الاجتماعية أو حتى معظمها.
ليس جديداً وجود الانقسام الطبقي، أو بالأحرى تعدّد الطبقات الاجتماعية، وتنوع الأنساق الثقافية في المجتمع الواحد. لكن يظل هناك إطار عام تنتظم فيه الطبقات المتباينة، ولا تخرج عنه، فالانسجام المجتمعي أحد أهم مكونات الدولة القومية. وفي أكثر الدول تنوعاً وتبنياً لنظم وقوانين فيدرالية أو محلية، خاصة بمكونات مجتمعية معينة داخلها، لا تبلغ تبايناتها حد التناقض، ولا تمارس سلوكاً إقصائياً تجاه بعضها، فالتعايش الإنساني داخل بوتقة اجتماعية واحدة يقبل التباين الجزئي والاختلاف الهامشي، فيما لا يمسّ العقائد أو المكونات الجوهرية لقيم المجتمع ومرجعياته. سواء كانت تلك القيم نابعةً من مرجعية دينية، أو تنطلق من نسق ثقافي ما، يفرز تلقائياً ملامح واضحة للأطر والحدود التي تتوقف عندها السلوكيات الفردية، وتقف حائلاً دون شطط بعض النزعات، سواء كانت وافدة من الخارج أو مستحدثة داخلياً.
وثمّة معضلة هنا، تتعلق بالمفارقة بين مجمل القيم والأعراف والقواعد الحاكمة لسلوك المجتمع المحلي وتصرّفاته، وغيرها من قيم وأعراف وقواعد حاكمة في مجتمعات أخرى. إذ لا توجد قواعد مطلقة أو قيم واحدة ثابتة يُحتكم إليها. وفي ظل موجة عولمةٍ اجتاحت كل مناحي الحياة، واخترقت كل الحدود القديمة، جغرافية أو ثقافية أو سياسية أو اقتصادية، سقطت حصون القيم المحلية، وانهارت حواجز الخصوصية المتوارثة. ولم يعد أحد قادراً على مواجهة انحدار السلوك الجمعي بالحجج التقليدية نفسها، من شاكلة أن المقبول في مجتمعٍ قد لا يناسب آخر، أو أن "مجتمعنا لا يقبل ذلك" لأنه "عيب" ولا يليق، إلى آخر تلك التبريرات التي باتت متهافتة، ولا تصمد أمام أسئلةٍ يطرحها الشباب على الكبار. مثل لماذا عيب؟ وما وجه عدم اللياقة؟ كما أن العالم المتقدّم الذي نقتدي به يمارس تلك السلوكيات، ويطبق تعريفه للقيم والحدود، ولم يتفكّك أو تتعرّض مجتمعاته للانهيار. هذا هو منطق كثيرين من الشباب المقلدين حالياً في مصر، وفي شعوب مشابهة كثيرة. والخطير أن المعسكر الآخر ليس معتدلاً أو وسطياً، وإنما مُتنطع رجعي منغلق على قيم وأنساق تعود إلى قرون مضت. وهو إن كان أقل انتشاراً وتغلغلاً في المجتمع، إلا أنه أكثر حدّة وعنفاً، وأحياناً يملك السطوة والقرار.
حل هذه المعضلة ليس بتغليب أو نصرة أي من الاتجاهين، وإنما بالعمل على التقريب بينهما، بإحياء منظومة قيمية، وبلورة نسق ثقافي عام يتسم بالرحابة والمرونة، وتجنيب أوجه الاختلاف لحساب المشتركات والتوافقات.