ما كانت حنة أرندت لتقول عن تفاهة شرّ نتنياهو؟
ابتذل بنيامين نتنياهو الموت وتفّهه، على نحو ما فعلت النازية بالتمام. حطّ من شأن القيمة الإنسانيّة ونزل تمزيقاً بالجسد الفلسطينيّ الحيّ، وخصوصا بأجساد الأطفال الطريّة التي صُعق العالم بأسره لمرآها فانتفض غرباً وشرقاً ونزلت جماهيره بالألوف والملايين رفضاً واستنكاراً. انتشى نتنياهو لمنظر نهر الدماء المتدفّق في غزّة، مستظلّاً عقيدته الصهيونيّة، على نحو ما فعل أدولف أيخمان حين استظلّ عقيدته النازيّة لسَوْق اليهود وآخرين إلى معسكرات الاعتقال وتصفيتهم. لشياطين الموت والقتل دوماً ذرائعهم، هذا بكونه ضابطاً مأموراً (أيخمان في النظام النازيّ) وذاك بكونه " مؤتمناً" على مصير عقيدة صهيونية و"دولة" (حتى لو كانت هذه دولة احتلال نشأت على القتل وارتكاب المجازر)، بمعنى أنّ نتنياهو ومجلس حربه (عصابته واقعاً) مؤتمنان في ظنّهما على مصير المدعوّة "إسرائيل"، وبالتالي يحقّ لهما ارتكاب أوحش ما يمكن أن يتصوّره عقل بشريّ، بل ما يفوق أيّ تصوّر ممكن، فقط لأنّ في المسألة تحدّياً وجوديّاً على طريقة هاملت "أكون أو لا أكون"، وبالتالي تغدو كلّ وحشيّة ممكنة، خصوصا حين تسمّى عنجهيّة "الشعب المختار" واستعلائيته العنصريّة المريضة.
كتبت الفيلسوفة اليهودية (غير الصهيونية) حنّة أرندت، عام 1961 تقريراً لصحيفة نيويوركر عن محاكمة النازيّ أدولف أيخمان (أيشمان في اللفظ الألماني) في القدس أمام المحاكم الصهيونية، وكان أيخمان المسؤول عن تنظيم نقل يهود وغير يهود إلى معسكرات الاعتقال لتنفيذ ما سمّي"الحلّ النهائيّ". ومن متابعتها مجريات المحكمة، خلصت أرندت إلى أن أيخمان كان بيروقراطيّاً عاديّاً، بل أقلّ من عاديّ، ورأت أنه "لم يكن منحرفاً ولا ساديّاً"، ولكنه كان "عاديًا بشكل مرعب"، وأنّه فعل ما فعله من دون أي دافع سوى "الاجتهاد مهنياً" في البيروقراطية النازية. لذا أطلقت على دراستها عنوان "أيخمان في القدس: تقرير عن تفاهة الشرّ" توازي في المعنى المقصود "عاديّة الشرّ"، أي الفعل الشرّير الذي يُرتكب بطريقة آلية، خالية من التفكير أو الإحساس أو الوعي والضمير وتقدير التبعات، إذ تطغى "الفكرة العليا" وهي في حالة أيخمان النازية، وفي حالة نتنياهو الصهيونية.
أشعلت أطروحة أرندت جدالاً كبيراً ما فتئ مستمّراً، علماً بأنّ الفيلسوفة ألمانية الأصل، والتي هاجرت الى الولايات المتحدة، لم تقل قطّ إنّ أيخمان كان مجرّد "ترس" بريء في ماكينة البيروقراطية النازية، ولم تدافع عنه بكونه "يتبع الأوامر فحسب"، موضحة أنها قصدت بالشرّ التافه أنّه "عصيّ على الفهم"، وأنّ أيخمان بالنسبة إليها "وصوليّ مبتذل غير قادر على التفكير". ورغم كلّ توضيحاتها، ظلّت أطروحة "تفاهة الشرّ" تحيّر الدارسين وتثير أصعب التكهّنات، وربما لو عاشت أرندت أكثر (توفيت عام 1975) لأوضحت المزيد بشأن مصطلحها المحيّر، إنّما العميق. فمن خلال كتاباتها السابقة، أفصحت عن نظرتها إلى الشرّ المطلق الذي يجسّده النازيون، والذي كان مدفوعاً بنوايا جريئة ووحشية لمحو الإنسانية نفسها. وبالتالي، لم تقلّل أرندت إطلاقا من ذنب أيخمان، إذ وصفته مراراً وتكراراً بأنّه مجرم حرب، وأيّدت قرار إعدامه، فرغم أنّ دوافع أيخمان لم تكن واضحة بالنسبة إليها وتعصى على الفهم، فإنّ قيامه بالإبادة الجماعية لم يكن كذلك، لذا يمكن القول إنّ أرندت رأت بالفعل الرعب الحقيقي لشرّ أيخمان.
السلطة والعنف ظاهرتان متلازمتان. أضف إليهما المكر والكذب والخداع لتكتمل الصورة (غير التقريبيّة) لنتنياهو، سفّاح الألفية الثالثة بعد الميلاد
عقودا مديدة، نُبذت حنّة أرندت بشكل غير رسميّ في الكيان الصهيوني، ولم تترجم كتبها إلى العبريّة ولم تناقش أكاديمياً. تعرّضت فعلياً لـ"الطرد السياسيّ الفكري"، بل عُدّت معادية للصهيونية و"يهودية كارهة نفسها" ومفتقرة "حب الشعب اليهودي"! لكن بعد عام 2000، تبدّلت الصورة في الكيان ورفع الحظر عنها وتُرجم بعض كتبها. ومع ذلك، لا شيء يستطيع تبديل مواقف أرندت الجريئة، خصوصا لناحية انتقادها الدولة القومية اليهودية، ودعمها إطارا سياسيا ثنائيّ القومية ومتعدّد الجنسية، وتحذيرها من التهديد الذي يتعرّض له السكّان العرب في فلسطين، وما من موقف أوضح من ذاك الذي أعلنته عام 1948 في مقال يحمل عنوان "إنقاذ الوطن اليهوديّ"، ومما جاء فيه: "حتى لو انتصر اليهود في الحرب فستدمّر في النهاية الاحتمالات والإنجازات الفريدة للصهيونية في فلسطين. ستكون الدولة المُراد تحقيقها مختلفة تماماً عمّا رآه يهود العالم والصهاينة وغير الصهاينة في أحلامهم. سيعيش اليهود المنتصرون محاطين بسكّانٍ عربٍ معادين تماماً، وسيُحبسون داخل حدود مهدّدة على الدوام، منغمسين في الدفاع الجسديّ عن النفس إلى حدّ أنّه سيلقي بظلاله على جميع الأنشطة والاهتمامات الأخرى. وسيقتصر تطوّر الثقافة اليهودية على فئةٍ معيّنة، وليس الشعب بأسره، وسيتمّ التخلّي عن التجريب الاجتماعي، لكونه كماليات غير عملية، وسيُحوَّل الفكر السياسيّ إلى استراتجية عسكرية، وستحصل التنمية الاقتصادية وفقاً لاحتياجات الحرب فقط".
يا للرؤية الفذّة والمدهشة. منذ السنة الأولى لتأسيس الكيان المغتصب المحتلّ أنبأت أرندت بمصيره، على ما نشهد حرفياً اليوم، بعد ثلاثة أرباع القرن! دولة لليهود ليست كما حلموا بها، محاطة بعرب معادين لها، محبوسة داخل حدود (وجدران، نضيف)، ومهدّدة على الدوام، دفاعها عن نفسها يلقي بظلاله على كلّ نشاط واهتمام، ثقافة يهودية حكر على فئة دون أخرى (التمييز داخل الكيان نفسه)، الفكر السياسيّ المتحوّل إلى "عسكرة " للمجتمع، واقتصاد في خدمة الحرب حصراً.
تُظهر الكاتبة الإسرائيلية إيديتْ (عيديت) زيرتال في كتابها "اعتراض ضميريّ في إسرائيل" كيف أنّ أفكار أرندت، بما في ذلك "تفاهة الشرّ"، التي رُفضت وقمعت عقودا هي موجودة في تفكير الشباب الإسرائيلي، وتؤثر في خياراتهم وقراراتهم في أثناء خدمتهم في الجيش وبعد ذلك. ويحتوي كتاب زيرتال على مقابلات مع جنود من رتب مختلفة، من ضباط الاحتياط إلى المدير السابق لـ"شين بيت"، عامي أيالون، وهم يروون كيف أصبحوا "موظفين" لم يؤدّوا سوى واجباتهم في العمليات التنفيذية، ضمن عالم ضيّق لم يترك لهم مجالاً واسعاً للتفكير (المقصود أنهم أضحوا آلات منفّذة لا تفكر ولا تناقش، مثل أيخمان). تضيف زيرتال عن أرندت: إنها بلا ريب من أعظم المفكّرين والأكثر تأثيراً في القرن العشرين، اختارت بوعي ألّا تكون فيلسوفة بمعنى التفكير بمعزل عن العالم، بل رأت نفسها مفكّرة سياسية تستقي فلسفتها من تجارب الحياة. لقد جرّبت ذلك كلّه مباشرة: الحربان العالميّتان، النازية، الهولوكوست، الشمولية، الثورات، ما بعد الاستعمار، اللاجئون والهجرة. نادرون هم المفكّرون الذين أدخلوا في عملهم الكثير من القضايا الحرجة لفكّ رموز العالم وفعلوا ذلك بشغف فكري وتألّق وشجاعة لا تقاوم مثل أرندت".
يمكن إسقاط نظرة أرندت إلى تفاهة شرّ أيخمان على تفاهة شرّ نتنياهو، فكلاهما شخص عاديّ إنّما بجرائم فظيعة
يمكن إسقاط نظرة أرندت إلى تفاهة شرّ أيخمان على تفاهة شرّ نتنياهو، فكلاهما شخص عاديّ إنّما بجرائم فظيعة. كلاهما عاجزٌ بسبب العمى الأيديولوجيّ عن رؤية الصواب الإنسانيّ، أي القدرة على اكتناه معنى الكرامة والقيمة الإنسانيتين. كلاهما لا يستطيع المضيّ أبعد من "أوامر الفكرة"، الأول "أوامر" فكرته النازية، والثاني "أوامر" فكرته الصهيونية. كلاهما "موظف" في مشروع قوميّ عنصريّ. الشرّ ليس كياناً جذرياً في الفرد، إنّما هو تافه سطحيّ هامشيّ يتخلّى فيه الإنسان عن أولى السمات البشرية: التفكير والتدبّر. هنا الإنسان – القاتل آلة ميكانيكية تسير وفق برنامج (عقيدة، أيديولوجيا، مشروع عرقيّ ...) واستراتيجية عنف وكذب متماسكة. يتأتّى الشرّ من الممارسة اللاعقلانية، الهلوسيّة المجنونة، وخطورة الشرّ تتأتّى من تفاهته ومن استقالة العقل وانفصال الفكر والضمير عن الفرد فيرتكب أفظع الجرائم بحقّ الأبرياء. لا حاجة إلى أي تفسير ميتافيزيقيّ أو لاهوتي أو شيطانيّ ... كلّه عمل إنسانيّ تافه.
النزوع نحو الانتقام والعنف والإجرام موجودٌ داخل المجتمعات العنصرية والشموليّة، يدفع حكّامها وشعوبها إلى التصرّف بلا شفقة، مع إحساس الحاكم بأنّه يقوم بفعل "بسيط" (إنّه بالتأكيد شعور نتنياهو في اللحظة الراهنة) فيما هو يقوم في الواقع بأبشع الجرائم على الإطلاق. وثمّة بحسب أرندت "عَوَزُ التفكير" أو "غياب القدرة على الفهم"، ففي غياب العقل الإنساني يصبح الإنسان كائناً مغفّلاً، آليّاً، عديم الشفقة، مثل آلة تقوم بأفعالها الشنيعة "روتينيّاً" (فلنلاحظ روتينيّة القتل والمجازر لدى نتنياهو كأن لا شيء يحصل)، أو لنقل إنّه إنسان متبلّد فكرياً ينفّد جرائمه على أساس المصلحة التي تفرضها الأيديولوجيا الفتّاكة. في حضور السلطة يغيب الفكر. السلطة والعنف ظاهرتان متلازمتان. أضف إليهما المكر والكذب والخداع لتكتمل الصورة (غير التقريبيّة) لبنيامين نتنياهو، سفّاح الألفية الثالثة بعد الميلاد.