ما الذي سيتغيّر في العالم إن لم تكتب؟
ماذا لو طرحتَ على نفسك هذا السؤال، عزيزي الكاتب، الذي يُغرقنا بنصوصه دونما تفكّر أو حسّ بالمسؤولية، مروّجا ذاته في كل مناسبة، زاعمًا أن نتاجه يُقارع أهمّ ما كُتب منذ أجيال، متّكئا على فوزه بهذه الجائزة أو تلك، أو على صدور "الطبعة رقم كذا" من عمله الذي يلاقي رواجا منقطع النظير، فيما لا تعدو الطبعةُ الواحدة في العالم العربي خمسمائة أو ألفي نسخة في أفضل تقدير. ماذا لو شعرتَ بشيءٍ من التهيّب، فتوقفتَ عن تأليف كتبٍ لا مسوّغ أو مبرّر لوجودها سوى أناك الطموحة التي تصوّر لك أنك ذو موهبة، أو أن الأدب ليس أكثر من رحلةٍ ممتعةٍ على أجنحة الشهرة والأضواء. وأدركت أخيرا أنه حفرٌ في الجِلد الحيّ ودخولٌ في العتمة، ثم في أتون النار، وأنه أشبه بلوثةٍ لا يُقبل الكاتبُ عليها إلا متهيّباً، حذِرًا، وازنًا كلماته كمن يزن تِبرا، واضعا فيها بعضا من روحه لكي تحيا فوق الصفحة البيضاء.
أما سمعتَ، يا صديقي، أن ثمّة مدرسة في الأدب، طواها الزمن للأسف ومحا أثرَها، تنصحكَ بألا تكتب إن لم يكن لديك ما تقوله، وألا تكتب إلا مضطرّا، مُجبرا، وحين لا يعود لديك خيارٌ آخر؟ وإلا، فالرأفة بحال أشجارٍ بريئةٍ ما أساءت إليك ولم ترتكب بحقك أيّ ذنب. تصوّر لو أنك شجرة، أفتريد أن تُقطع لتُحوَّل ورقا يُملأ ثرثرة وترّهات؟
ومع ذلك. لا أحد يمنعك من أن تكتُب، لكن رجاءً، كُن في التمرين، كُن في السؤال، لأنّ الكتابة كما لا تعلم ربما اختبار وتجربة بالمعنى التوراتيّ. إنها العيش في امتحان مستمرّ، امتحان الذات ورضاها عما كتبتْ، ورضوخها لأسئلةٍ دائمة عمّا حقّقت وأضافت. أجل، الكتابة امتحانٌ ومحنة، ذلك أن الامتحان هو إدخال الذات في محنة، ثم البحث عن وسيلةٍ لإنقاذها وقد نضجت، تغيّرت، ارتقت. تماما مثل عقوبة الصَّقر الذي يأتي كل يوم لينهش كبدَ بروميثيوس، عقابا لكونه سرق النار من الآلهة كي يهبها للبشر. كبد منهوش لن يلبث أن يعاود النموَّ في اليوم التالي، ليعاود الصقرُ التهامَه من جديد. كبد بروميثيوس المنهوش أبدًا، هو سؤال الكتابة!
هيا، قم من فراشك وابدأ نهارك بطرحك هذا السؤال: ماذا لو توقّفتُ عن الكتابة؟ ماذا لو تمهّلتُ، خفتُ، تردّدتُ؟ سؤال بسيط، إنما ضروري، لأنه، على بساطته وبداهته، يحتاج شجاعة لمواجهة الذات، فالمطلوب ليس أن تتوقّف وحسب، بل أن تستكشف أرضا عذراء لم يسبق لك استكشافها، أن تُغرق يديك في العجينة التي تودّ اختبارها، وأن تضيف إلى معمار مشروعك الأدبيّ مدماكا آخر جديدا. أجل، توقّف عن الكتابة إكراما للأدب الذي تحبّ وتُجلّ، أظهِرْ نفورا حيال ما يروج ولا نفع له، وانحيازا لخيار التأنّي والتهيّب، وحتى الصمت، لمَ لا، إذ يكفي هذي الحقبة جعجعة وقعقعة وضوضاء.
أنتَ تعرف دونا تارت، على ما أظن، لقد سمعتَ بها على الأقل، إنها الروائية الأميركية التي بلغت مصافّ كبار الكتاب بثلاث روايات فقط، كتبتها خلال ما يعدو ثلاثين عاما. أجل ثلاثون! فصاحبة "التاريخ السرّي" التي نشرت عام 1992، و"الصديق الصغير" (2002) و"الحسّون" (2013)، وتُرجمت إلى ثلاثين لغة وحازت أهم الجوائز، تقول إنها تحتاج عقدا على الأقل لكي تُنجز عملا ما. وبالمناسبة، واستباقا لأي تعليقٍ متّصل بتحقيقها شهرة عالمية تتيح لها أن تأخذ كل وقتها، لا أعتقد أنها لو بقيت مجهولةً كلّية وقاطعها العالمُ بأكمله، كانت ستكتُب وتنشر أكثر مما فعلتْ. وأخيرا لا آخرا، ألا ترى معي خطورة الوضع الذي تحياه الكتابةُ في العالم العربي حيث سهولة الكتابة، عفوا استسهال الكتابة وسهولة النّشر لا يشكّلان مؤشّرا على صحّة الإنتاج الأدبي؟ ألا ترى أنه ينبغي دوس الفرامل قليلا ودعوة الكتّاب والناشرين معًا إلى إطفاء المحرّكات بغية التفكّر في الأحوال التي بلغتها الكتابة الأدبية في العالم العربيّ؟