مارلين مونرو أم نورما جين؟
صدرت رواية "شقراء" عام 2000، وشكّلت، في حينه، حدثا أدبيا كبيرا بعد ترشيحها لجائزة بوليتزر، وتسلّق مبيعاتها أرقاما قياسية على قوائم أفضل مبيعات الكتب. إلا أن شهرتها الواسعة أتت ولا ريب من ولعٍ لا ينضب بالبطلة التي يُشير العنوانُ إليها، "شقراء"، إذ هي الشقراء الوحيدة التي يكفي ذكرها، حتى نستحضرها دون سواها، بتفاصيلها وملامحها وابتسامتها وقصصها وأفلامها وأحداث حياتها بمرّها وحلوها، عنينا بالطبع النجمة الأميركية الراحلة مارلين مونرو. بيد أن هذا لا يعني أننا نغفل أهمّية كاتبة الرواية، الأديبة الأميركية المعروفة جويس كارول أوتس، التي أرفقت الرواية بهذه الجملة: "هذه ليست بيوغرافيا عن مارلين مونرو، ولا حتى سيرة تتّبع الأحداثَ التاريخية في حياتها". هذا وقد صرّحت، في أكثر من موضع، بأنها استخدمت حياة الأسطورة السينمائية لكي تروي قصّة شخصيةٍ مشهورة من القرن العشرين، والمقصود أنها أرادت عبر روايتها أن تحكي قصص مشاهير آخرين كثر كانوا قد عاشوا صعود الحلم الأميركي وانهياراته.
اليوم، تعود الرواية لتشكّل الحدثَ من جديد، هذه المرّة عبر اقتباسها إلى الشاشة فيلما سينمائيا من إخراج أندرو دومينيك، أنتجته وتعرضه منصّة نتفليكس، وتؤدّي دور البطولة فيه الممثلة كوبية الأصل آنا دي أرماس. والفيلم الطويل الذي يدوم ساعتين و45 دقيقة (لمن هم فوق الثامنة عشرة)، استدعى ردود فعل متضاربة ومتناقضة، مع الإجماع على فنّيته العالية وجودة أدائه واحتوائه العناصر التي ترشّحه لأن يتحوّل مستقبلا إلى تحفة فنّية.
قرأتُ الرواية لدى صدورها، وأخيرا شاهدتُ الفيلم. وفي الحالين، وعلى الرغم من انحياز الكاتبة والمخرج معا، وبشكل مطلق إلى مارلين، وجدتُ أن هناك خللا أكيدا في تناول شخصّيتها الملوّنة والمؤثّرة فوق العادة، بدليل استمرار اهتمام الجمهور بها، وفضوله المتزايد الذي لم تخبُ جذوته قط برغم مرور سنوات طوال، أي ما يعدو ستين عاما منذ وفاتها، في العام 1962، في ظروف ما زالت غامضة. لقد كُتب الكثير عن الأسطورة اللّغز، وصُوّرت عنها عشراتُ الأفلام، وكُتبت مئاتُ المقالات والتحقيقات والتحليلات، وما زالت صورةُ تلك المرأة الساحرة وكأنها ما زالت تحتفظ بأسرارها، أو باحتمالات استكشافها من زوايا جديدة أخرى لم تخطر بعدُ في البال.
مارلين مونورو، أم نورما جين؟ من منهما الأقوى، الأكثر حضورا، الأشدّ تأثيرا، الأحقّ بالتناول والاستكشاف؟ ذلك هو السؤال الرئيس الذي ما زال يُطرح، محدّدا زاويةَ النظر إلى حياة الممثلة الأميركية التي تُجسّد، من خلال سيرتها الاستثنائية، ديكورَ الحلم الأميركي بأضوائه وزينته وجمالياته المفرطة، وفي الآن نفسه، كواليسَه المعتمة متعدّدة المآسي والظلال. والحال أن الرواية، كما الفيلم، يريان إلى نورما جين أكثر مما يريان إلى مارلين مونرو، بل يمكن القول إنهما يُلغيان الثانية لصالح الأولى ويُبدّيانها عليها، بإرجاعهما كل سيرتها إليها، مقلّلين من أهمية ومركزية كل ما عاشته الثانية وحقّقته. هو بالطبع خيارٌ روائيّ ودراميّ، لكنه في الآن نفسه حدٌّ من إمكانات هذه الشخصية كثيرة الطبقات والميول، والتي تعكس حياتها ايديولوجيا عصرٍ بأكمله، عصرٍ أميركي بامتياز جسّدته هوليوود كلّيةً وتمّ تناوله في أكثر من عمل فنّي.
أجل، كانت مارلين مونرو ضحيّة مجتمع رأسمالي كاسر يحوّل الإنسان سلعةً تُشرى وتباع. وأجل، كانت ضحيةَ يُتْمٍ مبكر حيث إنها لم تعرف والدَها وعاشت حتى سنّ السادسة في كنف والدة مريضة نفسيا تعاني من انفصام الشخصية، قبل تزويجها في السادسة عشرة، إلى ما هنالك من عوامل أخرى حوّلت قلبها إلى ثقبٍ كبير فارغ يتوق أن يمتلئ حنانا وعاطفة لم تعرفهما. نعم، كانت هذا كلّه، ولكنها لم تكن مجرّد ضحية، بل إن تصويرها ضحيةً فقط يُحجّمُها ويلغي أبعادَها الثرية الأخرى.
لقد عرفت مارلين مونرو معنى السلطة على الآخرين، فتذوّقت سلطة أنوثتها الصارخة وجمالها الأخّاذ على أهل السلطة أنفسهم، بقدر ما كانت واعية تأثيرها على الرجال والنساء على السواء، وقعَها على الجماهير، بالآلاف، بالملايين، فكان أن استعملت سحرَها ذاك بقدر ما استُعملت. وقد كانت ذات شخصية مكافحة، قوية، وذات موهبةٍ وطموح، وقد عملت جاهدة لكي يتمّ الاعتراف بها ممثلةً موهوبة، لا مجرّد رمز جنسي أو امرأة شقراء.
لكنها قد تكون استسلمت في النهاية، إذ اكتشفت كم كانت إنجازاتُ مارلين مونرو تُبعدها عن حياة نورما جين وأحلامها بأن تجد الحبّ ذات يوم، ذاك الذي لا تمنحه الشهرة ولا الجماهير ...