ماذا تبقّى من مشروع الإسلام السياسي؟
لستُ من أنصار المدارس الحاسمة القطعية، لا التي تنبأت سابقاً بأفول الإسلام السياسي، ولا التي قالت إنّ النتيجة هي انتصار هذه الحركات عاجلاً أم آجلاً، فلا نتحدّث عن لون واحد من الحركات الإسلامية، ولا عن مصير واحد بالضرورة، فهنالك أولاً ألوان أيديولوجية متنوّعة ومتعدّدة، وتختلف هذه الحركات في ما بينها بقدرٍ لا يقلّ في الخصومة، والشراسة، عن الحركات الأخرى (خارج سياق الإسلام السياسي). وهنالك ثانياً سياقات شروط متباينة ومتعدّدة ومختلفة تتحرّك فيها تلك الحركات، فالأنظمة السياسية، المجتمعية والثقافية في تونس، مثلاً، تختلف عنها في الأردن، وهكذا بما يؤثر، في الجوهر، على مصير الحركات الإسلامية وتطورها بين هذه الدول وتلك، ويجعلهم (الإسلاميين) أيديولوجيا وسلوكياً بمثابة المتغير التابع وليس المستقل، أي في إطار الاستجابة ورد الفعل ومربعاتهما، بينما السياسات الرسمية هي الفاعل الرئيس.
المقدّمة السابقة ضرورية للولوج إلى قراءة الكتاب، الصادر أخيرا عن معهد السياسة والمجتمع في عمّان بالتعاون مع مؤسسة فريدريش أيبرت، "الإسلاميون بعد عقد على الربيع العربي: أسئلة الثورة واختبار السلطة"، وهو مجموعة الأوراق والدراسات والنقاشات التي قدمت خلال المؤتمر الذي عقده المعهد والمؤسّسة، افتراضياً، على مدار عدة أشهر العام الماضي، وشاركت فيه نخبة كبيرة من الباحثين والخبراء العرب المتخصصين بالإسلام السياسي، وقد غطّى في فصوله وأبحاثه حالات عديدة: الإسلاميون في السلطة (نماذج تونس والمغرب ومصر في مرحلة الرئيس الراحل محمد مرسي)، والإسلاميون في الدولة التي تشهد حروباً داخلية وأزمات سياسية، والسلفيون والسياسات الخارجية للحركات الإسلامية، والتحوّلات في خطاب الإسلاميين وسلوكهم تجاه المرأة. كما توقفت محطة ورشات المؤتمر ونقاشاته مع ما حدث في تونس بعد قرارات "25 جويلية" التي أخذها الرئيس قيس سعيّد، وكان المستهدف فيها الإسلاميين.
السلطة السياسية كانت نقمة على الإسلاميين، لأسبابٍ بنيوية وذاتية مرتبطة بهم وللشروط والسياقات الموضوعية الداخلية والخارجية
جاء الكتاب كبيراً في حجمه وفي مجموعة الأوراق والنقاشات، نظراً إلى النماذج العديدة من الحالات التي نوقشت في الكتاب، بخاصة أنّه بمثابة "زيارة أخرى"(Revisiting) إلى الإسلام السياسي، بوصفه حقلاً بحثياً في العلوم الاجتماعية والسياسية، وكان أحد أهدافه تطوير مستويات النقاش والحوار العلمي بين الباحثين والخبراء لإعادة تصميم (وبناء) الحقل النظرية لدراسة الإسلام السياسي، بما في ذلك مراجعة الأسئلة والمناهج والأدوات البحثية والفرضيات والمقتربات المستخدمة في هذا السياق. وقد سبق للكاتب أن ناقش بعض هذه التفصيلات في مقالات سابقة في "العربي الجديد".
إذا تجاوزنا هذه التفصيلات، وذهبنا نحو قضيةٍ مركزيةٍ، احتلت مساحة مهمة وكبيرة في نقاشات المؤتمر وحواراته، وانعكست لاحقاً من خلال الكتاب، وتُرجمت من خلال العنوان الذي جرى اختياره، كما أنّ بعض نقاش وحوار تداوله الباحثون في رسم العنوان المناسب له، ليصلوا إلى "أسئلة الثورة واختبار السلطة" عنواناً أكثر حيادية، وإن ذهبت آراء بين الزملاء والأصدقاء الباحثين إلى مصطلحات أخرى، مثل "فخّ السلطة" أو "مأزق السلطة"، بما يتناغم مع النتائج التي وصلت إليها أغلب الأوراق والنقاشات، وتتمثّل في أنّ السلطة السياسية لم تكن نعمة للإسلاميين، بل في الأغلب الأعم بمثابة "نقمة" عليهم، لأسبابٍ، جزء كبير منها بنيوي وذاتي مرتبط بالإسلاميين أنفسهم، وجزء آخر مرتبط بالشروط والسياقات الموضوعية الداخلية والخارجية.
ومن ملاحظات أخرى، تستدعي تعميقاً أكبر في النقاش والحوار تتمثّل بمآلات المشروع الأيديولوجي للإسلام السياسي، وهو مشروع جرى اختباره بصورة واضحة في المرحلة السابقة من الربيع العربي. وليس الحديث هنا عن المشروع السياسي الإصلاحي، بل "الخطاب الأيديولوجي" الذي كان يقدّم وعوداً كبيرة للقواعد الاجتماعية العريضة بأنّ تجربتهم في الحكم ستكون مختلفة ومغايرة لتجارب الحركات والأحزاب السياسية الأخرى، وأنّهم سيمثّلون، بمجرّد وصولهم إلى السلطة، تحولاً هائلاً في طبيعة الواقع العربي، وهو أمر لم يحدث، بل على العكس، سقطوا في أغلب الحالات في التجربة، على المستويين الرئيسيين؛ الأول المرتبط بالشق الديني والأيديولوجي، والثاني السياسي والاقتصادي.
التحول عن الخطاب الديني والغرق في الخطاب السياسي الواقعي، وتبنّي حركات إسلامية كثيرة مبدأ فصل الدعوي عن السياسي
على صعيد الشق الديني، تخلى "الإسلاميون الديمقراطيون" عن حلم إقامة الدولة الإسلامية وإحياء الخلافة الإسلامية، وقبلوا بالديمقراطية بوصفها صورة نهائية لنظام الحكم، وحتى وإن كانوا يحاولون القيام بإضافات وتعديلات بما يجعل القيم الإسلامية متصالحةً مع الديمقراطية، فإنّ جوهر مشروع "الدولة الإسلامية" الكلاسيكية لم يعد قائماً، ضمن السمات التي طُرح بها في الكتب الفقهية أو الفكرية الأيديولوجية التي شكّلت المصادر الرئيسية لخطاب الإسلاميين، وكانت المعين الذي انطلقت منه وعودهم بمستقبلٍ مختلف للمجتمعات العربية والمسلمة.
التحول عن الخطاب الديني والغرق في الخطاب السياسي الواقعي، وتبنّي حركات إسلامية كثيرة مبدأ فصل الدعوي عن السياسي. وقد حرم هذا الاتجاه أو التطور الإسلاميين من مصدر رئيس من مصادر قوتهم، وقدرتهم على التعبئة والحشد العاطفي الشعاراتي، حتى وإن بقيت لهم قاعدة كبيرة تستجيب لهذه الشعارات، فإنّها، في النهاية، إن لم تر تطبيقاً لها خلال حكم الإسلاميين ستصبح مثل شعارات أخرى كبيرة بلا مضامين واقعية.
تنبهت بعض الحركات الإسلامية إلى هذا التحول البنيوي، ولذلك انتقلوا من الحديث عن إقامة الدولة الإسلامية إلى حماية الهوية الإسلامية للمجتمعات، ثم قولبت شعارات الإسلاميين وخطاباتهم بهذا الاتجاه، كيف نحمي هوية المجتمع في وجه المؤامرات والأخطار والاتجاهات والقوى السياسية التي تريد أن تغيّرها، ضمن المواد الدستورية والقوانين ولعبة قانون الانتخاب. ولكن بما لا يخرج عن قبول الإسلاميين بالديمقراطية والتعدّدية وعدم الذهاب نحو نسف قواعد اللعبة، ما حجّم ويحجم التغييرات التي يمكن أن يُحدثوها في هذا السياق، ويجعل منهم أقرب إلى الأحزاب المحافظة دينياً أو المسيحية الديمقراطية في الغرب.
انتهى الإسلاميون في تونس والمغرب ومصر إلى الإبقاء على البرامج الليبرالية الاقتصادية المرتبطة بمدرسة صندوق النقد الدولي
على الشقّ الآخر المرتبط بالقدرة على إحداث تغييرات إصلاحية سياسية واقتصادية ملموسة، فهذا أيضاً أمرٌ لم ينجح به الإسلاميون، فقد انتهوا في تونس والمغرب ومصر إلى الإبقاء على البرامج الليبرالية الاقتصادية المرتبطة بمدرسة صندوق النقد الدولي، ولم ينجحوا بإحداث فرق ملموس في الخدمات والبطالة والأسعار ومشروعات التنمية. صحيح أنّهم لم يعطوا فرصة كافية، وأن السياقات المحيطة لم تكن مواتية، لكن ذلك لا يعفيهم من حكم الشارع الذي عاقبهم بالانتخابات التشريعية المغربية أخيرا، وحصلوا على عدد محدود من المقاعد، وعاقبتهم شريحة اجتماعية واسعة، وخصوصا من الشباب ممن أيدوا قرارات الرئيس التونسي، قيس سعيّد، ولم يُحسن الإسلاميون، في العموم، في تجنّب الفخاخ في المرحلة الانتقالية، بل تفننوا في الوقوع فيها، في أحوالٍ كثيرة، فخاً وراء الآخر!
في الخلاصة، ليس الحكم أيديولوجياً أو مسبقاً، هنا، في دراسات الكتاب وأبحاثه نقاشاته، بل هو نتاج جهود بحثية ومعرفية، وليس من باب إلقاء اللوم على الإسلاميين أو غيرهم، ففي النهاية المسؤول عن حالة البلاد العربية اليوم هي السلطوية والديناميكيات المنبثقة منها، لكن النقاش هو عن إحدى القوى المهمة والرئيسية في المجتمعات العربية ومراجعة لتجربتها ومدى صلاحية ما تطرحه اليوم للمرحلة المقبلة.