ماذا بعد حرب غزة؟
انقشع غبار الحرب وأهوالها المدمرة عن غزة، ووضعت إحدى أكثر حلقات الصراع العسكري شراسة أوزارها، بهزيمةٍ واضحةٍ لدولة الاحتلال لم تكن في حسبانها، فمهما كابرت إسرائيل وعاندت لن تستطيع هذه المرّة تجاوز مرارة الهزيمة وتبعاتها السياسية والنفسية والإستراتيجية على جيشها وأفرادها ومستوطنيها المنفلتين من عقالهم.
صحيحٌ أنّ إسرائيل نجحت في إلحاق الأذى بمدنيين فلسطينيين كثيرين، خصوصاً من النساء والأطفال، وتخريب المباني على رؤوس ساكنيها، وتقويض البنية الأساسية وكل مقومات الحياة، بما يدخل في نطاق ارتكاب جرائم حربٍ ممنهجة، لكنّها مع ذلك لن تنجو من مصيدة غزّة التي ستترك أثرها بالضرورة في تشكيل المشهد المقبل، وتفاعلات الأحداث في عموم المنطقة في السنوات المقبلة. انتفاضة القدس وصمود غزة هما بصدد تشكيل ميزان قوى جديد في عموم المنطقة، لأنّ فلسطين تظل، في نهاية المطاف، بمثابة المرآة العاكسة التي يُقرأ على ضوئها ميزان القوى واتجاه الأحداث في هذه الرقعة من العالم.
انتفاضة الأقصى فكّكت "الهندسة التقسيمية" التي تقوم على تقطيع أوصال فلسطين التاريخية ما بين قطاع محاصر، وضفة مقطعة الأوصال
مقياس النجاح والفشل في المجال العسكري، كما هو في عالم السياسة، إنّما يقاس بمدى التقدّم أو التراجع عن تحقيق الأهداف المرسومة من القوة التي تبادر بتحريك جيوشها في الميدان. واليقين المؤكد هنا أنّ الآلة العسكرية الصهيونية لم تحقق شيئاً يذكر من أهدافها على الأرض، غير إحلال الخراب الموسع وإزهاق أرواح المدنيين الآمنين، علماً أنّ الانطباع الحاصل عند النخبة والرأي العام الصهيونيين يميل إلى القول إنّ هذه المغامرة العسكرية لم تحقّق شيئا يُذكر، ولعلّها من الحالات النادرة التي يوجد فيها انطباع عام مشترك وموحد بين الفلسطينيين والعرب والإسرائيليين على السواء. والحقيقة، كما يقال، ليست بمعزل عن الانطباع، وما يترسخ في نفوس الناس عن الأحداث الجارية.
إحدى النتائج المباشرة التي تمخضت عنها هذه الحرب وحدة القضية والوجهة بين مختلف مكونات فلسطين التاريخية؛ الضفة الغربية وقطاع غزة وفلسطينيي الداخل، ذلك أنّ انتفاضة الأقصى فكّكت "الهندسة التقسيمية" التي تقوم على تقطيع أوصال فلسطين التاريخية ما بين قطاع محاصر، وضفة مقطعة الأوصال بين خطوط أ وب وج، وبين فلسطينيي الداخل الذين ذهب في ظن كثيرين أنّ الأسرلة قد جرفتهم، وما عادوا يمتلكون الحد الأدنى من مقومات المناعة والشعور بالانتماء الفلسطيني والعربي، لكن تبيّن أنّ هذه مجرّد ظنون سوء بشباب الداخل الذين كانوا وقود انتفاضة القدس ومحرّكها الرئيس. كما أنّ من بين الثمار المباشرة لهذه الهبّة الفلسطينية والعربية أنّها أعادت البوصلة إلى وجهتها الصحيحة والسليمة، أي نحو القدس وفلسطين، باعتبارها القضية المركزية قولاً وفعلاً.
شهدنا خلال العقدين الأخيرين تشويهاً متعمّداً لمعطيات التاريخ ووقائع الجغرافيا ومصادر الوعي الجمعي العربي. ما بدأ محتشماً مع "أوسلو" أصبح واضحاً في مفرداته ومقولاته الأساسية خلال العشرية الأخيرة، ولعلّ أكبر مظاهر هذا التضليل الممنهج والفاضح اتجاه جامعة الدول العربية في القاهرة، بدفع من مصر والإمارات والبحرين، إلى إعادة صياغة العقيدة السياسية والأمنية العربية، بزعم أنّ الخطر الذي يواجهه العالم العربي اليوم ما عاد يمثله الاحتلال الصهيوني، بل ثلاثي الشرّ الجديد: تركيا وإيران والإسلام السياسي.
إسرائيل التي فشلت عسكرياً ستحاول أن تنتزع سياسياً ما عجزت عنه بقوة آلتها العسكرية بضروبٍ من المناورات
الحرب، كما يقول كلاوزفيتز، هي استمرار للسياسة بشكل آخر. ويجب أن نضيف إلى ذلك أنّ السياسة هي بدورها استمرار واستثمار في الحرب بصورة أخرى. وهذا يعني أنّ إسرائيل التي فشلت عسكرياً ستحاول أن تنتزع سياسياً ما عجزت عنه بقوة آلتها العسكرية بضروبٍ من المناورات، وعبر إعمال آلية الاحتواء بغطاء أميركي ومشاركة عربية رسمية.
معلومٌ هنا أنّ انتفاضة القدس التي أثارها نتنياهو، من خلال إطلاق أيدي المستوطنين، أربكت إدارة الرئيس الأميركي، بايدن، التي لم تكن مهيأة أصلاً للتعامل مع ملفات الشرق الأوسط بكلّ تشعباتها وتعقيداتها. وكانت تنوي تجميد القضية الفلسطينية وسائر ملفات المنطقة إلى حين آخر، مع الاكتفاء بتخفيف منسوب التوتر في الملف النووي الإيراني، وذلك ضمن رؤيتها التقليدية التي تقوم، في مجملها، على الانحياز لإسرائيل، وضمان تفوقها العسكري وما يسمى حقها في الحياة والدفاع عن نفسها، مع ترديد نظرية حلّ الدولتين، من دون أن تفعل شيئاً يذكر على الأرض غير بيع الكلام. وبموازاة ذلك، يتم تثبيت واقع الاستيطان وقضم الأرض وتهويد القدس وفرضها عاصمة أبدية للدولة اليهودية. وذلك كلّه من أجل أن تتفرّغ الإدارة الأميركية الجديدة لمواجهة ما تعتبره مصدر الخطر الاستراتيجي الأعظم، ممثلاً في الصين وروسيا.
وفي المجمل، يمكن القول إنّ الموقف الأميركي يظل رمادياً وغير منسجم، وهو أشبه ما يكون بمن يمشي على خيط رقيق معلق في الجو. منذ بدء الحرب، حرص بايدن على تأكيد الموقف الأميركي التقليدي، المشدّد دوماً على حق إسرائيل في الوجود والدفاع عن نفسها (وكأنّ إسرائيل التي تمتلك أعظم ترسانة نووية في المنطقة مهدّدة في وجودها) وأنّ حركة حماس منظمة إرهابية، لكنّه، من جهة أخرى، فتح كوة صغيرة من خلال تأكيد المشاركة في إعادة إعمار غزة. وبموازاة ذلك، يحاول الأميركان إيقاظ السلطة من مرقدها، بعدما طواها النسيان في مقاطعة رام الله، وهي محاولةُ لفرض السلطة مخاطباً رئيسياً بعيداً عن "حماس" وفصائل المقاومة. لكنّ ما كان خجلاً وملتوياً في الموقف الأميركي كان أكثر إفصاحاً من طرف برلين، ثم بروكسل، إذ صرّحت ميركل أنّ من المطلوب فتح قناة تواصل مع "حماس". وأكد الأوروبيون بدورهم أنّهم في حاجةٍ إلى هذا الحوار مع "حماس" بتوسّط القطريين والمصريين، استمراراً على الخط نفسه الذي بدأ خلال مفاوضات وقف إطلاق النار.
سوابق حركة فتح، ومنظمة التحرير عموماً، جديرة بالاعتبار والبناء عليها، تجنباً للوقوع في المطبّات والأخطاء نفسها ممن يتولى قيادة العمل الفلسطيني اليوم
الأرجح أن تتجه إدارة بايدن إلى توسيع نطاق التنسيق مع القاهرة، على الرغم من التوجّس الذي أبدته إزاء ملف حقوق الإنسان، بخلفية احتواء "حماس" وضمان غطاء جامعة الدول العربية لأيّ ترتيباتٍ مستقبليةٍ يراد تمريرها، ثم استبعاد الأدوار المنافسة من جهة الأتراك والإيرانيين، مع محاولة فتح خط جانبي عن طريق الدوحة.
لقد تكوّن لدى الفلسطينيين ما يكفي من الخبرة والتجربة الممزوجة بمرارة التعاطي الدولي المجحف، كما أنّ سوابق حركة فتح، ومنظمة التحرير عموماً، جديرة بالاعتبار والبناء عليها، تجنباً للوقوع في المطبّات والأخطاء نفسها ممن يتولى قيادة العمل الفلسطيني اليوم.
لا عاصم للفلسطينيين من ضغوط المرحلة المقبلة، وآليات التشذيب والتطويع، الممزوجين بعصا الاحتلال الخفية (والبارزة أحياناً)، غير الحفاظ على وحدة الموقف، على قاعدة الثوابت الفلسطينية والمطالب المشتركة والمتفق حولها للمرحلة المقبلة، وفي حدّها الأدنى دحر الاحتلال على أرض 67، وتفكيك الاستيطان.
يزداد الإدراك الفلسطيني، أكثر من أي وقت مضى، أنّ السياسة الدولية لا تحرّكها الاعتبارات الاخلاقية والإنسانية، وأنّ القانون الدولي يظل مجرّد نصوص صامتة، ما لم يحرّكها ميزان قوى على الأرض. كم سمع الفلسطينيون من حديثٍ عن فضائل السلام والتعايش السلمي وحلّ الدولتين، في وقتٍ يستمر قضم الأرض الفلسطينية وفرض التهويد وتغيير المعطيات بقوة السلاح وبلطجة المستوطنين، فقد توسّعت المستوطنات منذ مدريد سنة 1990 من 110 إلى ما يزيد على 700 مركز، وظلت الأرض الفلسطينية تنكمش سنة بعد سنة، لصالح دولة الاحتلال. ولا خلاص من ذلك كلّه إلا بوحدة الموقف الفلسطيني، على قاعدة التحرير، والعمل على تغيير التوازنات محلياً وإقليمياً.