مؤتمر المناخ ساحة صراع ومختبر للوعود والمواقف
انتهت قمة المناخ التي عقدت في أجواء من الصراعات والمتناقضات، فتلاقت الأطراف ذات المصالح المتوافقة، وكرّرت دول الجنوب الحديث عن الأضرار والخسائر، وهي الدول الأقل إنتاجاً للانبعاثات الحرارية التي تسبّب التغير المناخي، وفي الوقت نفسه، الأكثر تضرّراً، إذ تساهم أفريقيا بمقدار 3.8% من الانبعاثات الحرارية، بينما تتأثر سلباً بدرجة أكبر بحكم حساسيتها للتغير المناخي، وكونها، بجانب فقر شعوبها، تعاني من أزمات التصحر والصراعات. وتؤثر التغيرات المناخية في تأمين سبل العيش، وقضايا الأمن الغذائي والمائي، وتزيد مخاطر انتشار الأوبئة، ووتيرة الصراع على الموارد والنزاعات، ما يُنتج ظاهرة الهجرة المناخية، ويكرّس ظاهرة اللاجئين والنازحين الذين وصلوا أول مرة إلى 100 مليون، أغلبهم من قارّة أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط، وسيزداد الوضع صعوبة، وفقاً لسيناريوهاتٍ نشرتها هيئات الأمم المتحدة، وبعضها أعيد نشره، قبيل انعقاد المؤتمر.
الصراع الأبرز والمعتاد كان بين جبهة الدول الكبرى ودول الجنوب، ويتركّز على المطالبة بتنفيذ وعود مؤتمر كوبنهاغن 2009 بتخصيص مائة مليار دولار تمويلاً سنوياً لمواجهة تداعيات التغيرات المناخية، جاء مؤتمر باريس 2015 للتأكيد، لكن الدول لم تفِ بالتكلفة حتى 2020 لتكون مسار نقاش مؤتمر المناخ بشرم الشيخ، توفير تمويل كافٍ للحد من الأثر، والتكيف مع التغيرات المناخية التي تنتج ما يقارب 80% منها الدول الصناعية، لكن المؤتمر الذي اختلف على نتائجه لم يتوصل إلى قراراتٍ بشأن خفض الانبعاثات الحرارية، نظراً إلى تمسك دول كبرى بخيار الاعتماد على الوقود الأحفوري مصدراً أساسياً للطاقة. بينما أشار برنامج الأمم المتحدة للبيئة في تقرير إلى فجوة التكيف لعام 2022 قبيل انعقاد "COP27" إلى ضرورة زيادة التمويل من أجل التكيف مع حالة الطوارئ المناخية ومواجهة مخاطرها، وقدّرت الاحتياجات ما بين 160 ملياراً و340 مليار دولار بحلول نهاية العقد، لتصل إلى 565 مليار دولار بحلول عام 2050.
بجانب دول الجنوب، تقف هيئات الأمم المتحدة مطالبة بزيادة التمويل، ومعها تصطفّ حركات أنصار البيئة كجزء مكوّن للحركات الاجتماعية، التي تبرز فيها مكوّنات تقدّمية ترفع شعارات العدالة المناخية جزءاً من منظومة حقوق الإنسان.
ما تعلنه تقارير منظمات الأمم المتحدة، بشأن آثار التغيرات المناخية، خصوصاً في الشرق الأوسط وأفريقيا، يمثل وضعاً مفزعاً
تشهد قمم المناخ سنوياً تفاوتاً في المواقف، ومواجهات ترتبط بتناقضات في المصالح، وضمنها يبرز أن نمط الإنتاج الرأسمالي، كما قانونه العام، لا يعبأ إلا بالأرباح، والدول التي تبني ثرواتها الضخمة، وتراكم الانبعاثات، لا تهتم بحساباتٍ أمميةٍ بشأن حياة سكان الكوكب، وحين يستجيب الكبار لنداءات المناخ تكون الاستجابة، مشروعات استثمارية، وليست كما طالبت دول نامية بأن تكون تكاليف المواجهة في شكل منح ومساعدات، وساندتها أصواتٌ أمميةٌ كما منسق الإغاثة الإنسانية، غريفيث، الذي دعا إلى تخفيف عبء الديون، وأن تستخدم أموال المناخ منحاً، لا قروضاً.
كانت نتيجة جولة الصراع وعود جديدة، بعد انتهاء المؤتمر رسمياً 18 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، أتيح وقت إضافي يومين للتوافق بشأن حلول وسط حملها البيان الختامي، الذي أعلن، صباح 20 نوفمبر، إنشاء صندوق للخسائر والأضرار، لكن التفاصيل، بما فيها سبل التنفيذ والميزانية، ستناقش لاحقاً، وجاء المقترح كما قال رئيس المؤتمر، وزير الخارجية المصري، سامح شكري، في ظل توازنات صعبة، لتمثل سقف ما أمكن بعد جهود التفاوض.
هكذا انتهى المؤتمر، لكن ما تعلنه تقارير منظمات الأمم المتحدة، بشأن آثار التغيرات المناخية، خصوصاً في الشرق الأوسط وأفريقيا، يمثل وضعاً مفزعاً، ومع الأخذ بالاعتبار أن جانباً منه يرتبط بالحاجة لتوفير مخصّصات مالية للمنظمة، إلا أن حجم جوانب الأزمات وتعدّدها مقلقان، ويستدعي مشاركة قادة الدول في تحمّل مسؤوليتهم.
أزمة جوع في القرن الأفريقي، وصراعات ممتدّة تزيد من أزمتي النزوح والهجرة، التي يتوقع أن تتأثر بالتغيرات المناخية مستقبلاً
على سبيل المثال، هناك أزمة جوع في القرن الأفريقي، وصراعات ممتدّة تزيد من أزمتي النزوح والهجرة، التي يتوقع أن تتأثر بالتغيرات المناخية مستقبلاً. ويفيد تحليل لمنظمة الصحة العالمية بأن الأوبئة وصلت إلى أعلى مستوى لها، وأن احتمالات نشوء جوانح جديدة قائمة، بل تعتبر أزمة المناخ صحية بالأساس، وسجّلت فعلياً في القرن الأفريقي انتشاراً واسعاً لمرض الكوليرا (توسّعت في لبنان وسورية أخيراً) وحمّى الضنك بجانب أمراض أخرى، فيما يؤثر الجوع الحاد بحياة 47 مليون شخص، هذا بجانب أسوأ موجة جفاف منذ 40 عاماً، مع توقع انعدام الأمطار للموسم الخامس، بينما تواجه أجزاء أخرى كوارث، منها فيضانات وجفاف وتصحّر، فضلاً عن 4.5 ملايين لاجئ، بالإضافة إلى 12.7 مليون نازح داخلياً، الأمر الذي دعا المفوّض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فيليبو غراندي، إلى توجيه نداء بشأن مساعدة بلدان القرن الأفريقي لكسر حلقة أزمات الصراع والمناخ.
هذا على المستوى الأول للصراع، الذي جمع الدول الصناعية مع دول الجنوب والمنظمات الأممية وأنصار البيئة. أما المستوى الثاني، فقد ارتبط بحالة حقوق الإنسان في مصر، التي انتقلت من كونها قضية محلية إلى حد بعيد حسب وجهة نظر بعضهم، إلى شغل مساحة اهتمام أممي، ذلك قبل انعقاد المؤتمر، حيث أعلن نشطاء حقوقيون وأنصار للبيئة تخوفاتهم من المشاركة، بينما تحدّث آخرون، في بيانات وتقارير تناولتها وسائل إعلام عالمية، تضمين قضايا الحريات ضمن المؤتمر، ذلك بوصف أنه لا إمكانية للحديث عن حياة سكان الكوكب، من دون ضمانة الحقوق والحريات الأساسية. وقد دفع هذا الصدى الحكومة المصرية إلى إبداء قلقها قبل المؤتمر، وعبّرت عن ذلك أصواتٌ تطالب بتجاوز الخلافات السياسية، من أجل التركيز على قضايا البيئة، وهو ما يحاجج به بعضهم حالياً، وصولاً إلى نتيجة أن المؤتمر سُيِّس، بينما قضية البيئة ليست منفصلة عن المنظومة الحقوقية أو الشأن السياسي، لكن منظور المؤامرة يركّب العلاقات ويفكّكها حسب مصلحته، كانت التغيرات المناخية أحد ملفات التنافس في انتخابات الرئاسة بين ترامب وبايدن، ووعد الأخير في حملته الانتخابية بعودة بلاده إلى لعب دور قيادي، واعتذر في كلمته بمؤتمر شرم الشيخ عن الانسحاب الذي أعلنه ترامب خلال 2017.
لم تُدرج قضية حقوق الإنسان نكاية بالنظام المصري كما يتخيل مهاويس، أو ضمن مؤامرة كونية أو استهداف متخيّل، وهي ليست اختراعا مستجدّا
ومن غير المعقول أن ينعقد مؤتمر المناخ في مصر، من دون أن يطرح ملف حقوق الإنسان، خصوصاً أن المشاركين فيه عاملون في المجال الحقوقي، ليسوا جواسيس كما ينظر إليهم بعضهم، وشارك ممثلون لهيئات ومنظمات دولية، وآلاف يكونون نسيجاً متنوعاً لحركة اجتماعية صاعدة منذ بداية الألفية، تتشارك القضايا الحقوقية، وبينها شبكات اتصال فاعلة وتحالفات معلنة لا يتلقى أصحابها تعليماتٍ من لندن كما يشيع أنصار المؤامرة، غير أن من وظائفها طرح قضايا حقوق الإنسان ومناقشتها، وضمنها قضية المناخ، وسبق أن عبّرت حركات اجتماعية عن رفضها غزو العراق أو تضامنت مع الشعب الفلسطيني، ولم تعتبر حينها موالية لعاصمة عربية أو محل اتهام.
وعموماً، لم تُدرج قضية حقوق الإنسان نكاية بالنظام المصري كما يتخيل مهاويس، أو ضمن مؤامرة كونية أو استهداف متخيّل، وهي ليست اختراعاً مستجدّاً على كل حال، وليست اختراعاً لمناهضة نظم وطنية تحرّرية عربية، هذا إن وجدت أصلاً، غير أن من المؤسف أن تغضب بعض النخب من إثارة قضية السجناء، ومنها قضية علاء عبد الفتاح، ولا تقلقها المشكلة ذاتها، مشكلة كالحريات، وأعداد السجناء فى بلادهم وأوضاعهم، وأغلبهم سجنوا في قضايا نشر وتعبير سلمي عن الرأي.
وغريب أيضاً ألّا نرى الوطنية إلا مدرجة بجانب الدفاع عن السجون والمعتقلات وقوانين تنتهك الحريات، وحتى مع الاعتبار بأن هناك حملة قوية من أجل إبراز قضية الحريات، وخصوصاً قضية علاء عبد الفتاح. إلا أن قضية الحريات في مصر كانت حاضرة، كما سجل مصر الحقوقي، قبيل المؤتمر. وقد أصدر مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، فولكر تورم، رسالة دعا فيها إلى وضع حقوق الإنسان في صميم الجهود المبذولة لمعالجة تغير المناخ. وقال إن نتائج "COP27" في شرم الشيخ "أمر بالغ الأهمية للتمتع الفعال بحقوق الإنسان، ليس فقط في السنوات المقبلة، ولكن الآن". ودعا إلى تمكين الجميع من المشاركة، بمن في ذلك ممثلو المجتمع المدني. وفي تصريحات الرجل إشارة إلى معوقات صادفت بعض المشاركين وشكاوى من منظمات مصرية أيضاً من عدم السماح لها بالمشاركة، وهذا نشر في صحف أجنبية قبل المؤتمر بشكل متكرّر.
ساهمت تصرّفات بعض الأطراف بأن تكون حالة حقوق الإنسان محل تركيز، على عكس ما استهدف المؤتمر من حيازة مكانة دولية ونفوذ دبلوماسي
وما طرح في القاهرة عن وضع حقوق الإنسان ليس سراً، وغالباً ستطرح قضايا مماثلة في الإمارات، سواء ما تعلق بحقوق الإنسان أو مساهمة الدولة المستضيفة للقمة الـ28 في الانبعاثات الحرارية، التي تشكل عاملاً رئيسياً في التغيرات المناخية. فضلاً عن ذلك، سبق أن طرحت المفوضية السامية لحقوق الإنسان موضوعات تختصّ بالحقوق والحريات بحكم اختصاص المفوضية ومجال عملها، التي أصدرت هذا العام دليل عملٍ عن علاقة المفوضية بقضايا المناخ من منظور شامل. وعلى الرغم من ذلك، واجهت المفوضية هجوماً مركّزاً خلال مؤتمر المناخ، وكأن مصر لم تعرف المفوضية من قبل، ولم تقدّم لها الحكومة المصرية، ممثلة بوزارة الخارجية، تقارير خلال الاستعراض الدوري عن حالة حقوق الإنسان.
وغير مسألة الاختصاصات والتذكير ببعض البديهيات والأسباب التي تجعل قضايا حقوق الإنسان في مصر مطروحة وحاضرة في المؤتمر، ساهمت تصرّفات بعض الأطراف بأن تكون حالة حقوق الإنسان محل تركيز، على عكس ما استهدف المؤتمر من حيازة مكانة دولية ونفوذ دبلوماسي، ضمن أهداف أخر. وكانت عمليات التظاهر والحشد ضد علاء عبد الفتاح تكسبه تعاطفا أكبر، بل أصبح الحديث عنه أمراً يومياً، تتابع قضيته التي تجسّد حالات آلاف السجناء، وفرضت قضية علاء نفسها على الإعلام المصري والبرامج الحوارية.
وختاماً، وهو أمر يثير الدهشة، أن يغضب بعضهم من إثارة قضية السجناء، ويعتبرها باباً للفوضى، بدلاً من أن تعتبر بداية لتفكيك أزمةٍ تساهم في الإصلاح، وأن يعتبر مثقفون، ينتمي بعضهم إلى اليسار، أن الدفاع عن الحريات في مصر يشكل اصطفافاً مع قوى غربية استعمارية. ولهؤلاء يحتار الإنسان في معنى التحرر الذي يمثلونه، وهم يتمسّكون بالقيود ويقدّسون أسوار السجون وإجراءات القمع والضبط، أي تحرّر هذا الذي تبنيه الأسوار والأغلال والأزمات المركّبة!