ليست لعنة تيتانيك

24 يونيو 2023
+ الخط -

خمسة من أثرياء العالم ربما فقدوا حياتهم اختناقا في أعماق المحيط الأطلسي؛ في واحدةٍ من أغرب الحوادث البشرية وأكثرها ندرة. قرّروا القيام برحلة غوص في عمق المحيط لمشاهدة حُطام السفينة الشهيرة، تيتانيك، الغارقة منذ بدايات القرن الماضي في رحلتها الأولى من بريطانيا إلى الولايات المتحدة. كانوا يخطّطون لقضاء أوقات ممتعة في أعماق المحيط، وهم على متن الغواصة تايتان، بعد أن دفع كل منهم ربع مليون دولار لحجز مكانٍ في الغوّاصة الصغيرة التي لا تتسع سوى لخمسة أشخاص. اختفت الغوّاصة عن شاشات الرادار بعد أقل من ثلاث ساعات من بداية غوصها لتصل إلى عمق 3800 متر، حيث حطام السفينة. وما إن انتشر الخبر، حتى استنفر العالم المتقدّم لتقديم كل أنواع المساعدة في محاولةٍ لإنقاذ الغوّاصة المختفية وركابها الأثرياء، أموال وخبراء ومعدّات ضخمة ومتطوّرة ومختصون بعمليات الإنقاذ وريبوتات مخصّصة لمثل هذه الحوادث. وحتى كتابة هذه السطور، كانت الأخبار عن عمليات الإنقاذ سيئة ومحبطة، ولا تبشّر بأي نتيجة إيجابية.
من الصعب تصوّر الحالة التي كان عليها ركّاب الغواصة الصغيرة، في أعماق المحيط حيث الظلام الكامل والضغط المرتفع والأكسجين الذي يتم استهلاكه شيئا فشيئا، وحيث لا طريقة للهروب أو محاولة النجاة عبر الخروج من الغوّاصة، للاقتراب من سطح البحر، فالغوّاصة لا تفتح سوى من الخارج، ولا يوجد سوى ذراع واحدة للتحكّم بها (تشبه ذراع البلاي ستيشن)، والأمر مرتبطٌ تقنيّا بالسفينة التي كانت تقلّ الغوّاصة. هكذا سوف يتواجه الأثرياء الخمسة مع حضور الموت مباشرة، سوف يراقبون تقدّمه إليهم وهم غير قادرين على فعل أي شيءٍ لمنعه.
أحاول تخيل ماذا دار في أذهانهم في لحظاتٍ مثل هذه: هل ندموا مثلا على خوضهم مغامرة ترفيهية، وهم يعلمون مسبقا بمخاطرها؟ هل يظنّون أنهم سوف ينجون رغم اليأس المحيط بهم، معتمدين على فكرة أن ثرواتهم سوف تساهم في عملية إنقاذهم؟ هل يدركون أن العالم لن يتخلّى عن محاولة إنقاذهم؟ هل حاولوا طرق جدران الغوّاصة أم استسلموا لمصيرهم المرعب، وقرّروا أن لا يفعلوا أي شيء يستهلك مزيدا من الأكسجين؟ كلها سيناريوهاتٌ مرعبةٌ لتخيّل مثل هذه اللحظات، وتضعنا جميعا في مواجهة فكرة العلاقة مع المصير، مع الموت والحياة، مع الكينونة البشرية التي مهما وصلت إلى مراحل مُبهرة من التطوّر، فهي لا تساوي شيئا أمام مقدّرات الطبيعة وقوتها وجبروتها. مع أولويات الحياة والعلاقة الإشكالية مع فكرة الثروة والغنى الفاحش الذي يتيح لأصحابه خوض مغامراتٍ قاتلة، لا بقصد الاستكشاف العلمي وإفادة البشرية، بل بقصد كسر الملل والروتين والتميز عن باقي الأثرياء في العالم، والتباهي بما يمكن فعله بالثروة، مما لا يمكن لـ 99٪ ممن باقي البشر فعله. 
أطلقت الصحافة العالمية على الحادثة اسم لعنة تيتانيك، فمالك التيتانيك صرّح قبل بدء رحلة السفينة الشهيرة، قبل أزيد من مائة عام، بأن سفينته تتحدّى قوة الطبيعة، ثم غرقت نتيجة اصطدامها بجيل جليدي. وكذلك صرّح صاحب الشركة المالكة للغواصة قبل انطلاق رحلتها، قائلا إنه لا توجد قوّة في الكون يمكنها إغراق الغواصة. لكن الغوّاصة التي كانت تقتفي أثر "تيتانيك" لاقت المصير نفسه، فسمّيت الحادثة لعنة تيتانيك.
تتجاهل الفانتازيا خلف هذه التسمية واقعا حقيقيا أكثر رعبا، وحادثة حصلت قبل أيام فقط، لتكون الأكثر كارثية في سلسلة من الحوادث المشابهة في العقد الماضي؛ وأعني بها غرق المركب الذي كان يحمل على متنه 750 مهاجرا غير شرعي، لم ينج منهم سوى أقلّ من 80 شخصا، بينما تواجه الباقون (معظمهم أطفال ونساء) مع الموت مباشرة، من دون أن تُتاح لهم فرصة التفكير بصوابية ما فعلوه في رحلتهم، ومن دون أن تخطر لهم فكرة أن يهبّ العالم المتقدّم لإنقاذهم، ذلك أن لا أحد معنيٌّ بمصير فقراء العالم، لا أحد يكترث لموت الشعوب الفقيرة والمضطهدة والبائسة. نحن لسنا أكثر من أعدادٍ تذكُرها الصحافة، موتنا الجماعي المتعدّد ليس أكثر من خبر يتناقله الإعلام العالمي بكسل واضح، من دون أن يجعل أحدا يحرّك ساكنا لتجنيبنا ما هو أسوأ. لا أحد يذكر أسماءنا ولا يكترث للأسباب التي جعلتنا نخاطر بمصائرنا ومصائر أطفالنا الذين كانوا سيعيشون كباقي أطفال العالم، لو أن هذا العالم كان أكثر رحمةً وعدلا.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.