ليست حربنا
عندما قرّر السوريون، أو الجزء الكبير الذي ثار منهم، الانضمام إلى بقية الثورات العربية في طلب التغيير السلمي، لم تكن دوافعهم مرتبطةً بأي قضية خارجية، أو أجندة إقليمية أو دولية. كانت ثورتهم، مثل ثورة إخوانهم في بقية أنحاء العالم العربي، عفوية، غير منظّمة، دوافعها الأساسية محلية، يمكن اختصارها في السعي إلى تحقيق كرامتهم الإنسانية، ومواجهة الظلم والفساد، وتحقيق مستقبلٍ لأبنائهم، لا يهدّده الخوف والكبت. وعلى الرغم من أن النظام بذل، منذ اليوم الأول للثورة، جهدا خارقا لربطها بقضايا وأجندات خارجية، حتى يتمكّن من سحقها بمسمّى المؤامرة، فحاول ربطها بمواقفه في السياسة الخارجية، مدّعيا أنها محاولةٌ لمعاقبته على مواقفه من المقاومة وفلسطين والحرب الأميركية على العراق وغيرها، إلا أنه فشل في ذلك، ولم يقنع إلا جمهورا قليلا لم يكن في حاجةٍ إلى عناء كبير أصلا للاقتناع بما يقوله.
عندما تحوّلت الاحتجاجات إلى العمل المسلح، وما كان عليها ربما أن تفعل، لأن هذا ما أراده النظام تماما، أي دفع المحتجّين إلى العنف والتطرّف، لتبرير استخدامه القوة الغاشمة ضدهم. نتجت عن ذلك ثلاثة أمور أساسية: دفع ملايين السوريين إلى الهرب والبحث عن الأمان في دول الجوار التي لم تكن تحتاج أصلا إلى ذلك حتى تتدخل، وتعتبر نفسها معنية مباشرة بالصراع السوري. تدفق آلاف المقاتلين الأجانب للمشاركة في الصراع السوري، ولتتحوّل سورية بذلك إلى نقطة جذب واستقطاب للقتال العابر للحدود والقوميات. خروج القرار من أيدي السوريين الذين تحولوا، نظاما ومعارضة، إلى وكلاء محليين يعتمدون في بقائهم وتسليحهم على الرعاة والداعمين الإقليميين والدوليين.
تبرز مثل هذه النتائج في صراع داخلي مسلح، تحوّل إلى حرب وكالة إقليمية ودولية، لكن ظاهرة جديدة بدأت تتشكل في الفترة الأخيرة، وهي تجنيد السوريين، خصوصا من المعارضة، وتصديرهم للقتال في حروب وصراعات لا علاقة لهم بها. حصل ذلك في ليبيا الصيف الماضي، ويحصل اليوم في الحرب الدائرة بين الأذر والأرمن حول السيادة على إقليم ناغورنو كاراباخ، وقد نشهد لاحقا زجّ مقاتلين سوريين في مسارح قتال أخرى، يبدو أننا سنشهد مزيدا منها نتيجة التحولات العميقة الجارية في بنية النظامين، الإقليمي والدولي.
واضح أن هناك محاولة لاستغلال الظروف المادية والمعيشية الصعبة التي يواجهها كثيرون من الشباب السوريين الذين أصبحوا، بسبب سنوات الحرب الطويلة، لا يعرفون مهنة إلا القتال، وزجّهم في أتون حروب وصراعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وعلى أرضٍ لا يعرفون عنها شيئا، ويتلقون أوامر للقتال بلغةٍ لا يفهمونها حتى. وقد انتشرت أخيرا عبر وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع مؤثرة لشباب سوريين تم نقلهم للقتال في إقليم ناغورنو كاراباخ، وهم يهيمون على وجوههم. فيما أشارت مجلة فورين بوليسي إلى مقتل عشرات منهم، في تقرير طويل لها رافقت خلاله جثامين شباب سوريين تم نقلهم في طريق العودة من القوقاز إلى مناطق في شمال حلب ليتم دفنهم هناك.
لا يستطيع المرء أن ينكر الدعم الكبير الذي قدمته وما زالت تقدمه تركيا للاجئين السوريين، إذ تعد أكبر تجمع للاجئين السوريين في العالم اليوم، فهي تستضيف ما لا يقل عن ثلاثة ملايين سوري، معظمهم يعيشون خارج المخيمات، ومندمجون في المجتمع التركي، يدرسون ويعملون ويمارسون حياتهم بصورة طبيعية، في حين أنهم يعجزون عن فعل الشيء نفسه في دول عربية عديدة، هذا إذا سلموا من التعامل بعنصريةٍ معهم في بعضها. ولكن نقل مقاتلين من فصائل المعارضة لخوض حروب خارج أرضهم، يسيء، في المقابل، كثيرا إلى ما تقوم به تركيا تجاه السوريين، ويسيء أكثر الى قضية السوريين وثورتهم التي خرجوا من أجلها. يُظهر ذلك المقاتلين السوريين بمظهر المرتزقة الذين يقاتلون من أجل المال، بدون مبدأ أو قضية، ويعطي ذخيرةً لكل من اتهمهم، منذ بداية الثورة، بأنهم ليسوا سوى مرتزقةٍ تتولى دول الخليج دفع رواتبهم لإسقاط "قلب محور المقاومة". الغريب في الأمر موقف مؤسسات المعارضة السورية، وفي مقدمتها "الائتلاف" الذي يبدو أنه لم يسمع بشيء من هذا!