ليبيا: محاولة تطبيع أم لقاء عارض؟

04 سبتمبر 2023

ليبيون في طرابلس يحتجون على لقاء المنقوش بنظيرها الإسرائيلي (28/8/2023/فرانس برس)

+ الخط -

أثار لقاء وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش مع نظيرها الصهيوني ردود فعل غاضبة في الشارع الليبي، ووجدت نفسها فجأة في قلب عاصفة من دون أن تملك فرصة للتبرير أو التفسير. وما جرى لا يمكن تبريره بأي شكل، فلم تكن المنقوش ولا الحكومة الليبية بحاجة إلى لقاء كهذا، فقد تحوّل إلى كارثة سياسية لها تبعاتها في المرحلة المقبلة.
تسعى دولة الكيان الصهيوني دائما إلى إيجاد صلاتٍ مع الدول العربية المختلفة وتطبيع العلاقات معها ضمن سياستها الخارجية المرسومة بعناية، وتحظى برعاية أميركية في هذا المجال. ورغم حالة التضارب في التصريحات بين المسؤولين الصهاينة عن تسريب خبر اللقاء، إلا أن من الواضح أن الأمر قد يكون متعمّدا لقياس درجة تقبل الرأي العام الليبي مثل هذه اللقاءات. وفي المقابل، تصرّفت الحكومة الليبية بشكلٍ يوحي بإلقاء اللوم على الوزيرة وحدها، والتنصّل رسميا من الحدث.
لقد تصرّفت الأنظمة العربية دوما بالطريقة ذاتها التي تتبنّى الإنكار العلني لما يتم فعله سرّا، وإن لم تعد اللقاءات مع مسؤولي دولة الاحتلال أمرا مستغربا ولا نادرا في ظل العلاقات المعلنة بين عدد متزايد من الأنظمة العربية والصهاينة، فقد حقّقت الدبلوماسية الصهيونية اختراقاتٍ مهمةً في الساحات العربية المختلفة، وتمكّنت بالفعل من إقامة علاقاتٍ رسميةٍ مع عدة أنظمة عربية، وهي تحاول استكمال بقية الدول الممتنعة عن مثل هذه الاتصالات. 
لقد تحوّل التطبيع إلى جزء من الممارسات الرسمية العربية لاعتقاد كثيرين من حكّام المنطقة العربية أن العلاقة مع الكيان الصهيوني مدخل أساسي لضمان الدعم الأميركي، والغربي عموما، وبالتالي الاستمرارية في الحكم. ربما كان ما جرى في ليبيا يكتسي نوعا من الغرابة، خصوصا أن الوضع الليبي المضطرب والحاجة إلى ضبط الأوضاع للسير نحو إعادة تشكيل الدولة وتوحيدها يقتضي الابتعاد عن كل ما يزيد في توتّر الأوضاع. وإذا أخذنا بالاعتبار رغبة رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة، في الترشّح للانتخابات المقبلة، والبقاء في السلطة، فإن ما جرى يشكل انتكاسة حقيقية له في مسيرته نحو اجتذاب الناخبين الليبيين وكسب تعاطفهم.

الوضع العربي الحالي المنقسم بين دول التطبيع والدول الرافضة له ناجم عن الاختلال الحاصل في السياسة العربية

لا أحد يصدّق أنّ سلوك وزيرة الخارجية الليبية المقالة كان موقفا فرديا، وتورّطت بكل سذاجة سياسية في لقاء مع طرف يعتبره الشارع الليبي عدوا، ولهذا ستكون الفرصة سانحة أمام خصوم عبد الحميد الدبيبة للمزايدة عليه وتصويره أمام الشعب بصورة التابع للنفوذ الصهيوني. وهذا لا يمنع من طرح السؤال عن خلفيات التسريبات، وهل هي نتيجة التنازع بين الأجهزة في دولة الاحتلال أم هو محاولة لإفقاد الدبيبة المبادرة وإضعافه أمام مواطنيه؟
كان ردّ فعل الشارع الليبي تعبيراً عن مدى الرفض الذي تلقاه محاولات التطبيع مع دولة الاحتلال، وهو، في هذا السياق، لا يخرج عن المزاج العام للشارع العربي عموما، حتى في الدول التي طبّعت مع الاحتلال، وهو جمهور يرفض التعامل مع الكيان الصهيوني، رغم ما يجري من استغلال للوضع الحالي المتّسم بالتشتّت وفوضى القرارات السياسية، مثلما حصل في الحالة السودانية، عندما اتّجه الحكام الجدد إلى التطبيع، فالوضع العربي الحالي المنقسم بين دول التطبيع والدول الرافضة له ناجم عن الاختلال الحاصل في السياسة العربية، حيث تسود الصراعات البينية، وتحوّل الصراع مع دولة الاحتلال إلى مسألة هامشية لدى أنظمةٍ كثيرة أصبحت تبحث عن تحالفات مع الطرف الصهيوني، لتدعيم مواقفها إما للاستمرار في الحكم لدى بعضهم أو لتحويل هذا التحالف إلى جزء من الصراع الإقليمي، حيث ترغب بعض الأنظمة في توظيف الحليف الصهيوني في نزاعها مع الجار الإيراني.
كشفت التجربة أن التطبيع مع دولة الاحتلال لم يحقّق أي مكاسب للدول العربية، ويرتبط بعضها بعلاقات دبلوماسية معها منذ عقود، فالدول العربية التي تعاني من مشكلات داخلية، مثل ليبيا أو حتى حرب أهلية على الطريقة السودانية لن يشكّل التطبيع بالنسبة لها أي قيمة مضافة، بل استفاد الكيان الصهيوني من هذا الأمر، لاكتساب مزيد من الشرعية، ولفرض نفسه لاعباً إقليمياً لا يمكن تخطّيه. وما كشفت عنه ردود الفعل الغاضبة في ليبيا هو حالة الانفصال بين كثيرين من أصحاب السلطة العرب ومواطنيهم، وهو ما يقتضي مراجعة هذه الحالة غير الطبيعية، قبل أن تفضي إلى ما لا يمكن توقّعه.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.