لم أعد غاضبة .. ونجوت من الحنين
زارت القاهرة صديقة سورية مقيمة خارج سورية منذ زمن، لكنها ممن لا يزال مسموحا لهم بزيارتها. وفي آخر زيارة لها، قصدت قريتي، الملاجة. ورأت بيت أهلي هناك، وزارت المنطقة التي كنا نقيم فيها مهرجان السنديان، ورأت المنحوتات التي حوّلها همج الشبّيحة إلى قطع حجرية متناثرة، لكثرة ما حاولوا تكسيرها انتقاما. أحضرت لي من هناك جذعا صغيرا من شجرة صنوبر ما زال محملا بالأكواز. كانت وضعته في كيس أنيق، كما لو أنها تريد حمايته من التلف، كما لو أنها تعرف أنه هدية غالية. وقبل أن تعطيني هديتها، كنت سمعتُ خبر رحيل صديق عزيز جدا. حاولت هي التخفيف عني، وأعطتني جذع الصنوبر، لم أكن في حالةٍ مزاجيةٍ جيدة لتلقي أية هدية، فأخذتها منها وشكرتها، وأخرجت الجذع من الكيس ووضعته جانبا. لاحظت صديقتي ذلك، وانتبهت إلى أنني لم أُبد أي ردة فعل تجاه جذع الصنوبر القادم من أكثر الأماكن التي أحبها. وسألتني سؤالا كان مفاجئا: "لسّاتك زعلانة من الملاجة؟ لساتك مجروحة ومقهورة منهن"؟. لم أعرف بماذا أجيبها، قلت: "لا، الموضوع لا يتعلق بهم، فقط سمعتُ خبرا سيئا قبل دقائق".
صباح اليوم الثاني، وضعت جذع الصنوبر في آنية فخار، واحتفيت به بما يليق بلطف صديقتي التي حملته من سورية إلى البلد الذي تسكن فيه ثم إلى مصر خصيصا لي. وحين تأملته في مكانه الجديد، فكّرت بسؤالها أمس "لسّاتك مجروحة ومقهورة من الملاجة"؟. فكرت بكل ما حدث في السنوات العشر الماضية، بعد أن أعلنت موقفي مع الثورة، كيف قاطعني الجميع، أصدقاء عُمْر وأولاد عمومة، كيف كنت أتلقى شتائمهم أنا وابنتي. فكّرت بكمّ التحريض الذي كانوا لا يتوقفون عنه ضدنا، بكمّ الاتهامات وتأليف الحكايات والسير وتشويه سمعتي وسمعة ابنتي والتعرّض لعائلتي. فكّرت بكمية التهديدات بالقتل التي وصلت إلينا، وما زالت تصل، من بعض موتوريهم. فكّرت بالمنحوتات التي كسروها انتقاما مني، وكأنها ملكٌ لي وليست ملكهم. فكّرت كيف كتبوا اسمي على غرفة المراحيض في ساحة القرية العامة، التي تقصدها والدتي، حين تكون في القرية وسترى ما يفعلون. تذكّرت كيف شتموني وابنتي على أحد التلفزيونات السورية المؤيدة وتبرأوا مني، وكيف حاولوا إجبار والدتي على فعل ذلك، ورفضت بقوة أخافتهم فتراجعوا. تذكّرت حين كنت أبحث ذات يوم في محرّك البحث "غوغل" عن أمر يخصّ مهرجان السنديان، كيف محوا من أدبياته كل ما يتعلق بي وبوالدي الذي أسّسه، كيف ما زالوا يسيئون لسمعتي بهذا الخصوص. تذكّرت كيف قاطع أقرب أصدقائي هناك والدتي التي تعيش وحيدة، كيف كانوا يمرّون من أمامها ويديرون وجوههم كي لا يلقوا عليها السلام والتحية. تذكّرت الشائعات التي روّجوها وتناقلوها عني على صفحات "فيسبوك" ومواقع إلكترونية تابعة للأمن مباشرة. وأنا التي لم أقتل أحدا، لم أروّج لقتل أحد. رفضت السلاح منذ البداية، ورفضت الأسلمة واقترافات الثورة. كل ما فعلته هو الكتابة عن ضرورة الثورة وأهميتها، وعن ضرورة وقف الحل الأمني الذي سيُغرق سورية بالدماء.
تذكّرت كل الألم الذي تسبّبوا لي به لمجرّد أنني وقفت مع ثورة كانت لتكون لهم مثلما هي لكل أبناء سورية، كانت لتحسّن مستوى حياتهم ومستقبل أولادهم، كانت لتسمح لأبنائهم بأن يحلموا، وهم موقنون أن أحلامهم لن تجد أمامها أفقا مسدودا، أن يتعلّموا وهم واثقون أن فرصهم في وطنهم متاحة، لأنهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات مع كل أبناء وطنهم، ثورة كانت لتخلّصهم من المحسوبيات والفساد والرشاوى والولاءات المزيفة والتعامل الرخيص مع الأجهزة الأمنية مقابل الفتات، كانت لتكون هكذا، لولا أنهم ببساطة لم يدركوا معنى أن تكون وطنيا، لا ابن دين أو مذهب أو طائفة. ولم يستطيعوا التفريق بين الوطن والحاكم، حتى أخذ هذا منهم كل شيء، كل شيء تماما بما فيه حياة أبنائهم، فمن لم يمُت من أبنائهم في الحرب المجنونة التي وضعوا في واجهتها هرب منها إلى غير رجعة.
لم تسمعني صديقتي، حين أجبتها في اليوم الثاني بعد شريط ذكريات يمتد إلى عشر سنوات ماضية: لست زعلانة منهم ولا غاضبة. أشفق على حالهم وعلى ما وصلوا إليه. أما جذع الصنوبر فقيمته عندي أنه منك تحديدا، لكنني نجوت من الحنين إلى ذلك المكان منذ مدة.