لماذا نرى المرأة جميلة دائماً؟
هل لأنها أمنا جميعا، يوم كنا صغارا وفقراء ومعطوبين ومرضى ومحتاجين لحنانها؟ هل لأن لها ذلك الرصيد الجميل في القلب والشعر والأغنيات ومواويل الهجر والبكاء على الطلل ودموع السفر؟ هل لأن دموعها تذكّرنا بطفولتنا التي كانت بين يديها وتحت أمر مددها؟ هل لأنها تداري خشونتها وقسوتها في رقّة السؤال وفي طول أملها ومد خيوط الوداد، فينا، حتى وإن قست أو تناست أو أهملت فيما كانت لا تنساه أو تهمله؟
لا أحب أن أشبهها بالشجرة، لأن الشجرة واقفة في مكانها، ولا تغمز لأحدٍ حتى للشمس ولا للورد. المرأة تجدّد في طريقة جلستها كل صباح، حتى وإن كانت كعجوز تجلس بجوار شجرة وتنتظر حكاية.
هل لأن المرأة حكاية تتمدّد فينا وتترك آثارَها فينا، بلقمة، أو بقطعة حلوى، أو بنظرة، أو بسؤال، أو حتى بذكرى، ذكرى الرجل جافة حتى وإن كانت عاقلة، نظرة جافّة وخالية من الوداد، وخالية من ظلّ الشجر، وخالية من العنب، وخالية من الدموع، وذكريات المرأة قريبة منا، وتنادي علينا في وحدتنا، تنادي علينا في وحدتنا ونحن مرضى، أو ونحن نحمل السلاح في الخدمة بالجيش، أو ونحن نتقدّم بأوراقنا للجامعة، أو ونحن في زحمة القطار، أو في مكتب التنسيق، أو ونحن ندفع مصاريف الجامعة، أو ونحن في المدرّج نكتب الكلمات على الخشب، أو الشعر، أو ونحن ننتظر الأوهام على محطّات القطارات في مطروح أو أسوان أو الأقصر، أو ونحن في مقاعد صالات السينما نحصد في تلك الأوهام التي لم نلحقها أبدا، إلا في القصص.
قديما قلت: جرِّد كتاب ألف ليلة وليلة من أحلام الفقراء والبسطاء والنساء الجميلات، فقد لا تجد بعدها بين يديك نصّا له ذلك البنيان المدهش الآن. رحلة سيدنا إسماعيل إلى بلاد العرب كانت وراءها امرأة تثبته هناك، هي وتد الرحلة وهي الخيمة في بلاد غريبة، كل الأنبياء تقريبا كان سندهم امرأة، وما تجرّعوا سمّا كما حدث لسقراط مثلا.
هل لأننا قدّسنا المرأة طويلا في دواوين الشعر، وفي الخيمة، وفي الهودج، وفي السفر، أم لأنها هي "ابنة الشعر من الأزل"، رغما عنا ورغما عن أثينا؟ لماذا تظهر كذلك وكأنها بلا هموم رغم همّها، هل لأن الرجل يحمل همومه دائما، وهي تتحايل على همومها بالحيل، كما يحدث مرارا في "ألف ليلة وليلة"؟
هي المشغولة بانتظار البراعم، وهي ناسجة الحرير وتعرف غصّة الفصول في الفقد، ولكنها تكابر وتعيش وتتعايش مع متناقضات الدنيا الواسعة، وكأنها هي التي صنعتها، رغم أنها ضحية كالرجل تماما وأكثر تحمّلا في أوقات الألم، فقط تصرُخ كي تعيش أكثر وتتعايش مع حكاية الفقد، فقد تفقد، بحكم العمر، بعض زهوها وبعض تفاصيل جمالها العزيزة عليها، وتستعيدها أحيانا بالكلمات والحكايات والدموع وهدهدة الأحفاد بالحكايات، كي تتقوّى لبقية الرحلة، وفي الصباح تكون قوية وجميلة وتعبر الطريق إلى المخبز أو الحقل أو مكتب البريد أو المصنع أو المستشفى أو إلى "غرب اليوسفي"، لزيارة أختها الكفيفة ومعها "النبق". تضحك في الطريق حتى وهي فوق عربة كارو يجرّها حمار أو وهي تجمع الطماطم أو العنب أو في معامل الطوب أو تجمع أوراق الشاي أو لوز القطن في الحر.
في الحقول هي "عين شمس" الحكاية، ووراء القمر، هي "سحر المحبوب"، إن أتى لها أو غاب عنها أو حتى غدر بها، تشيل ألم الحكاية على ظهرها لقمر آخر، وتحمل القسوة، قسوة الكلام، كي تكمل الطريق إلى نهاية العمر. هل لذلك نحاول نحن أن نراها جميلة، حتى وإن كانت فلاحة أخذت السنوات منها وتركتها جلدا على عظام، ولم يعد لها من روائح الحسن القديم إلا "خزام من الفضة يتدلّى بأسفل الأنف وفي الذقن الذي تكرمش، ثلاث دقات خضر معمولات بالإبر وخاتمان من فضة في أصابع اليد اليمنى، وعيون باتت تسيل منها المياه، وهي تحدّق في الشمس وتسأل عن الغائب".
ذاكرة الود هي، تحشو جيوب الصغار بلحا، من وراء رجلها، لأولاد أختها وتلقي بأعواد النعناع "لضرّاب الطوب الصعيدي كبير السن" وهو يخلط الطين بالتبن، وتصب له الشاي من البرّاد وتضحك على الحظ، يلقي ضرّاب الطوب موالا عن الحزن، فتضحك "وإيه حزنك يا حزين؟"، فيضحك ضرّاب الطوب لأول مرة منذ الصباح، وهو يشرب الشاي ويدعو لها، تركن البرّاد بجوار التبن وتقول له: "كان لي جد راح الحجاز وأنا عيلة، راح بجملين ورجع بجمل، كان يغني لي عن الحظ وعن المراكب ويضحك، وكل ما أشوف واحد لابس عباية أشم عطره". ابتسم الطوّاب وقال لها: "حظ الست الكريمة شايلاه في قلبها، وأنت حظّك معاك قيراطين، وربنا يزيدك".