لماذا كلما كبُرنا نخاف قول الحقّ؟
هل لأن الحقّ "صعبٌ فعلا"، أم لأن ألسنتنا صارت عاجزةً، هل ذهبت بعيدا عنّا روح ذلك الإنسان البطل الذي كان يحمل الصخرة فوق ظهره، أم لأن الزمان غير الزمان، وتحت كباري الأزمنة والأنهار جرت مياهٌ كثيرة، فصرنا نعيش فقط بلا بطولة معلنة أو خفيّة، كي نصل إلى أماكن سعاداتنا وسلاماتنا بسلام من دون ألم ما، هل بتنا نخاف الألم إلى هذا الحدّ؟ وهل باتت العصور الآنية والمقبلة هي البعد عن الألم قدر الإمكان؟ مع أن القلب دائما في ألم، حتى وإن كانت من الآلام التي لا يصرّح بها، وتظلّ مكتومة كسر أكبر من طاقتنا.
لا أتكلّم هنا عن الأبطال أو الشهداء أو أنصار أحمد عرابي إلى منفاه، ولكن أتكلّم عن الإنسان العادي الذي يمشي إلى عمله في الصباح باليومية في مخبز أو في عمارة تحت الإنشاء أو فرّاش في مدرسة أو مدرّس في جامعة ينتظر بيع المذكّرات في "التيرم" الأول أو مهندسا يبني الكباري ولدية ثلاث لغات.
من ذلك الذي أرهبنا عن قول الحقيقة أو حتى مناصرتها عن بعد وكتمان الألم بهذا الشكل المهين؟، أظن أنني، أنا أيضا، من الخائفين أكثر من اللازم، ولستُ من الأبطال أبدا، ولا أحمل على ظهري سجلا بذلك، إلى درجة أنني لم أدخل حزبا في حياتي ولا محكمة ولو حتى كشاهد، أين هؤلاء الذين ماتوا؟
كان عم سهلي رجلا عاديا جدا، ذهب إليه ولدٌ يتيمٌ شاطر وغريب عن البلد، استطاع من "ضرب الطوب" أن يشتري بيتا ويبنيه ويشتري سريرا ودولابا، في السبعينيات من القرن الماضي، وكان هذا من الصعوبة على الفقراء في مصر إن لم يسافروا إلى العراق أو ليبيا أو الخليج. وأراد الولد اليتيم الزواج، فذهب إلى عم سهلي، كي يكون معه في طلب زواجه من جارة له، فوافق عم سهلي مسرورا بشطارة الولد اليتيم الذي صار أشطر من أولاده الذين تعلموا. ولمّا حاول والد البنت أن يسأل عم سهلي: "من أي دكّان اشترى بسلامته السرير العمولة؟"، اعتدل عم سهلي ولفّ سيجارة من علبته الصفيح، بعد ما أسكت الولد العريس اليتيم تماما عن الكلام بإشارة قاطعة من يده، وقال للرجل: "أنت تسأل عن سرير العريس وهذا حقّك، لكن قبل أن نجيبك لابد أن نرى صحّارة العيش في بيتك وكم رغيفا بها؟". هنا هاجت القعدة، بكت أمّ العروسة، وتمت بحمد الله. وصارت حكاية تُحكى على استحياء في شروط الزواج، على استحياء أو بعد قراءة الفاتحة.
لماذا كلما كبرنا وتهدّلت أبداننا وشابت نواصينا في خنادق السرادقات الانتخابية والحزبية، وكثرت أعداد "كرافاتاتنا" الثمينة في شاليهاتنا في المنتزه أو شرم الشيخ أو الساحل الشمالي، بتنا أكثر خوفا على أولادنا وأحفادنا وقططنا ونصيبنا من الكعكة، حتى وإن تصبّب عرقنا خجلا مما نفعل. المهمّ أن نلحق بالسرادق قبل وصول غيرنا ويعلو تصفيقنا. ويا حبذا لو ظهرنا في قناة فضائية، حتى وإن كانت تتكسّب من الينسون أو حبّة البركة وحلف البر. ويا حبّذا أيضا لو كانت جلستنا بجوار فنانة خلعت أسنانها من أربعين سنة، وتستعين بطاقم أسنان من تركيا.
هل هو أسلوب في منتهى الحكمة منهم، أن يخيفوا الأصغر بتلهّفات الكبار على الوليمة، واللحاق "بكار" الوجود الباكر في السرادق، ومعهم أوراق طهارتهم ومحبّتهم الوطنية مختومة في أرشيف الأسرة بثلاثين من الأختام الأيوبية المملوكية والعثمانية، والتي لم تخرُج قط عن مبادئ الثورة بالطبع.
ما كلّ هذا اليتم الذي ألصقوه بالحقّ، وجعلوه كخائف في آخر أدراج الصف الدراسي، بعدما نزعوا عنه محبّة الوطن، وملأوا سرادقات الفنانين بالمئات من الباحثين عن الشهرة من صغار السن، سواء بالتقاط صورة أو "سيلفي".
أتأمل اليافطات، وأتأمل أسماء أصحابها، ولا ينقذني سوى النيل. النيل لا يكذب أبدا، حينما يقلّ خيره تنزل المياه عن مقياسه، ويظهر طينُه واضحا على الجرف، وكأنه اليتيم وقد بانت عظامه وما تحت ملابسه. النيل لا يداري خجله، ولا يداري حزنه أو انكساره، نحن فقط نكذب في السرادقات، لأننا نخاف على بقية الرزق. نخاف لأننا نحاول بكل الطرق أن نحافظ على "اللقطة" للأحفاد، حتى وإن استمرّت اللقطة قرنيْن. المهم أن نركب جمل البرلمان، ويكون لأولادنا ذلك المسلسل، من توهم السطوة والملك، في كل رمضان. يزداد حزن النيل أحيانا، فأذهب إلى المقابر، وأرى واضحة الأسماء، ومن قال الحقّ ومن ابتلع فلنكات السكّة الحديد، ومن قطف البرسيم بالمنجل، وهو يعود من "الذكر" ليلا بالمسبحة والعطر وبقية التواشيح ما تزال طريّة في فمه، فأعود مرتاح البال، وأضحك على اليافطات والأسماء. وكل يوم أرى أحزاننا غير المعلنة تكبُر بلا سبب، حتى ونحن في تمام هندامنا.