لماذا فاز اليسار في البرازيل؟
حقّق اليسار البرازيلي إنجازاً كبيراً بفوز مرشّحه، لويس إيناسيو لولّا دا سيلفا، في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، التي جرت الأحد الماضي، بنسبة 50.9%، في مواجهة مرشّح اليمين الشعبوي والرئيس المنتهية ولايته، جايير بولسونارو، الذي حصل على 49.1%. ويمكن القول إن هذه الانتخابات كانت بمثابة استفتاء شعبي على فترة حكم بولسونارو الذي اتسم بسلطويته المفرطة ومحاباته دوائر المال والأعمال على حساب الفئات الفقيرة، ما تسبّب في شرخ مجتمعي كبير لم تزده جائحةُ كورونا إلا حِدّةً.
لم يكن متوقعاً أن يعود دا سيلفا إلى سدة الرئاسة، بعد أن حُكم عليه (2018) بـ 12 سنة سجناً، عقب إدانته بتهم فساد، قبل أن تلغي المحكمة العليا الحكم بسبب أخطاء في مسطرة المحاكمة، وهو ما فتح المجال أمامه للعودة إلى الحياة السياسية. ويرى كثيرون في البرازيل أن الهدف من عزل الرئيسة السابقة ديلما روسيف (2016) وسجن دا سيلفا كان إزاحة اليسار عن مواقع السلطة والقرار، وتشويه سمعه قياداته أمام الرأي العام، بعد أن نجحت في إعادة المسألة الاجتماعية إلى الواجهة، باعتبارها عصب الصراع السياسي، ليس فقط في البرازيل ولكن في عموم أميركا اللاتينية، ففي أثناء ولايته الرئاسية الأولى (2003 - 2010) نجح دا سيلفا في جعل البرازيل قوة اقتصادية صاعدة، ونهج سياساتٍ اجتماعيةً مكّنت أكثر من 30 مليون شخص، من الفئات الفقيرة، من الالتحاق بالطبقة الوسطى، في ما اعتُبر إعادة صياغة للتوازنات القائمة، في بلد يُمثّل فيه اليمين المحافظ قوة اجتماعية كبيرة. وهو ما لم تستسغه القوى الاجتماعية المحافظة التي سعت إلى إجهاض تجربة اليسار والالتفاف حول مكاسبها.
فوز اليسار البرازيلي في الانتخابات الرئاسية يعني الكثير، فمن المؤكّد أنه استفاد من أخطاء تجربته السابقة، إذ بدا خطاب الرئيس المنتخب أكثر تخفّفاً من الإرث الأيديولوجي والسلطوي الذي طبع حكم اليسار في أميركا اللاتينية مع نهاية التسعينيات، وأكثر توسُّلاً بالواقعية السياسية باستيعابه ميزان القوى في الداخل والإقليم، فلا يزال اليمين، بمختلف تنويعاته الليبرالية والمحافظة والشعبوية، يرى في الموجة اليسارية الحالية تهديداً لمصالحه التي تلتقي مع مصالح الرأسمالية الأميركية، لا سيما بعد تراجعه اللافت في هندوراس وبوليفيا والأرجنتين وتشيلي وكولومبيا.
ولعلّ ما يخيف هذا اليمين أكثر أن يتحوّل فوز أحزاب اليسار في أميركا اللاتينية إلى ''كتلة حرجة'' تعيد تشكيل الإقليم، بأنْ يصبح جزءاً من تكتّلٍ دوليٍّ مناهضٍ لسياساته؛ تكتل تتخطّى حدوده أميركا اللاتينية نحو الصين وروسيا والهند ودول أخرى، بما قد يُفضي إلى تغيير في التحالفات والتوازنات الاقتصادية في العالم، في ظل ما تزخر به هذه البلدان من موارد بشرية واقتصادية هائلة. ولا شك في أن هذا اليمين يُدرك جيداً أن إطاحة رئيس أو حكومة، لا تخضع لتوجهاته الاقتصادية والاجتماعية، عن طريق دعم الانقلابات العسكرية وتمويلها، لم تعد وصفةً ناجعةً أمام صحوة الشعوب ويقظتها، وإخفاق الأنظمة العسكرية في تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية، ما يضاعف مخاوف هذا اليمين في المدى البعيد.
يواجه لولّا دا سيلفا تحدّيات جسيمة، أبرزها ضعف النمو الاقتصادي وتأثير الجائحة على الوضع المعيشي لفئات عريضة، فقد كانت البرازيل من أكثر البلدان تضرّراً في العالم من تفشّي الفيروس. كما يواجه مجتمعاً منقسماً على نفسِه نتيجة السياسات اليمينية والسلطوية لسلفه. وهو ما يجعله مطالباً بتوسيع قاعدة التوافق بين مختلف مكوّنات المجتمع البرازيلي. وقد لمح إلى ذلك مباشرة بعد انتخابه، حين قال ''إن فوزه فوزٌ لحركة ديموقراطية واسعة، تشكلت بمعزل عن الأحزاب والمصالح الشخصية والأيديولوجيات''. يُضاف إلى ذلك ملف غابات الأمازون الذي يُتوقع، كذلك، أن يحظى باهتمامه بعد التدمير الممنهج الذي تعرّضت له هذه الغابات، خلال فترة حكم بولسونارو، والذي صبَّ في مصلحة الشركات الكبرى ودوائر المال والأعمال.