لماذا تراجعت مكانة "23 يوليو"؟
لا تتغير قيمة المناسبات التاريخية الكبرى ومكانتها على ضوء ما يستجد من تطورات سياسية وحسب، بل على ضوء ما يتبدّل في قناعات الشعوب، وما يتحوّل في وجدانها وقناعاتها.
أبلغ مثال على ذلك أنّ يوم 23 يوليو/ تموز كان قبل ثورات الربيع العربي ومخرجاتها يحمل قيمة أكبر في التاريخ العربي مما بات له اليوم. صحيحٌ أن ذكرى ثورة يوليو التي قادها جمال عبد الناصر والضباط الأحرار في مصر، العام 1952، لم يبق منها إلا الاسم منذ أن مشى أخلافه على خطه بأستيكة (ممحاة)، كما يتندّر المصريون، إلا أن ثورات الربيع العربي التي مثّلت ثورات شعبية، على غير تلك العسكرية التي مثلتها ثورة يوليو، غيّرت مسارات التاريخ العربي، وصنعت فيه أحداثاً جديدة ذات قيمة كبرى منذ اندلاع أولاها في تونس أواخر عام 2010، بغض النظر عن ماهيتها، فلا يقولن أحد إن تلك الثورات أفسدت أو أصلحت، لأنّ ما هو مؤكّد أنّ النتائج الحقيقية والعميقة للربيع العربي لم تتبدّ حتى الساعة.
الحال أن المرحلة التاريخية منذ قيام ثورة يوليو في 1952 وحتى اندلاع ثورات الربيع العربي في 2010 تمثل خطاً تاريخياً واحداً، أما السنوات اللاحقة لعام 2010 فتمثل في التاريخ العربي خطاً جديداً مغايراً. وهذا يفسّر كيف أنّ ثورة يوليو حافظت على قيمة ثابتة طوال تلك الفترة (1952-2010)، لكنها تراجعت لصالح أحداث جديدة مع "الربيع العربي" الذي بات يمثل خطاً تاريخياً مستحدثاً.
ظل الحلم العربي بالنهوض وبناء المستقبل والدخول في التاريخ والمشاركة في الحضارة الإنسانية، قائماً ومشتعلاً في نفوس الأجيال الجديدة
في منطق التاريخ، يمثّل القرنان الأخيران من عمر العالم العربي وحدة زمانية واحدة، عاشت فيها بلادنا ظرفاً حضارياً واحداً، وقضية حضارية واحدة. صحيحٌ أن هذه الوحدة الواحدة مرّت بعدة انعطافات، صنعت هذه "الخطوط" المتباينة التي نتحدث عنها هنا، خصوصا مع نزول الاستعمار العسكري بلادنا، ثم رحيله عنها، غير أنها لم تعرف انقطاعاتٍ تجعلها تقسّم إلى مراحل وفترات.
والمعنى أن ظهور الدولة العربية الأولى في مصر، قبل نحو قرنين، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بثورات الربيع العربي حين اندلاعها أول مرة في أواخر العام 2010 ومطلع العام 2011؛ فهذه الأخيرة مثلت امتداداً تاريخياً للأولى: قضيتهما رفض التخلف والسعي إلى النهضة. كذلك هو الحال بالنسبة للكفاح ضد استعمار الأوروبيين بلادنا، وظهور الجماعات والأحزاب السياسية المؤدلجة، ثم قيام الدولة العربية المعاصرة التي عرفت تالياً الانقلابات العسكرية أداة لبلوغ الحكم، ثم الاستبداد المطلق بذريعة حماية الأوطان، والتصدّي لإسرائيل والإمبريالية الإمبراطورية الأميركية، وصولاً إلى ما نشهده اليوم من انفجار.
هكذا، تراجعت المكانة الاحتفالية لثورة يوليو، لأن تاريخ العرب المعاصر قد انثنى باندلاع ثورات الربيع العربي، برغم أننا لا نزال نعيش المرحلة التاريخية نفسها منذ أكثر من مئتي سنة. هل يشكل ذلك، يا تُرى، أمراً محزناً للحالمين بالنهضة الحضارية؟ أظنّه يمثل أمراً محزناً لمن يحبون عبد الناصر ويقدرونه حق قدره، من دون أن يدركوا كليّات التاريخ. كانت ثورة يوليو (يضيف أنصارها لقب "المجيدة" في وصفها) نقطة مهمة في التاريخ العربي الطامح للنهوض، لكنها لم تكن أبداً نقطة البدء فيه. إنها ليست نقطة الأصل التي يجب أن تظلّ لها القيمة الكبرى.
المرحلة التاريخية العربية الراهنة التي بدأت مع ثورات الربيع العربي سيكون عنوانها الشعوب لا الأنظمة
إن كنا نريد تحقيق مرادنا في التخلص من التخلف والانتقال إلى التقدّم والنهوض، فإن علينا إدراك كليّات التاريخ: لقد حاولنا مراراً، منذ نحو مئتي سنة، أن نتجاوز التأخّر ونلج في النهضة؛ مرّة بتأسيس دولة حديثة، وأخرى بالتجديد الفكري، ثم بالكفاح المسلح، ثم بالثورات والانقلابات العسكرية، لكننا كنا دائماً نخفق؛ تارّة بسبب الاستعمار، وأخرى بسبب عدم الجاهزية الفكرية والعلمية، وثالثة بسبب الاستبداد.
أخيراً، نحن نخفق اليوم من جديد من خلال نوع مختلف من الثورات، هي ثورات الشعوب، وعلينا أن نأمل ألا نخفق مجدداً، ولو بعد حين، إذا ظل الحلم العربي بالنهوض وبناء المستقبل والدخول في التاريخ والمشاركة في الحضارة الإنسانية، قائماً ومشتعلاً في نفوس الأجيال الجديدة. ولكن تحقيق ذلك مرهون باستخلاص العبر المفيدة من إخفاقنا الأخير هذا، فالواضح أن الشعوب العربية لم تكن مؤهلةً لإنجاز ثورات مثمرة على الصعيد الحضاري، نتيجة مشكلات "ثقافية" عميقة تعيشها، حالت دون تنظيم نفسها على النحو الذي ينتقل بها من الاستبداد والظلم إلى العدالة والمشاركة. ذلك أمرٌ يتصل بغياب الثقافة المدنية حتى بين المشتغلين بالسياسة والطامحين للتغيير، وهو الذي يفسّر تحول الثورات إلى حروب أهلية على قاعدة الطائفية والقبلية والمناطقية. صحيحٌ أن ذلك حدث بسبب التآمر على الثورات في المقام الأول، لكن الواقعي أن تلك المؤامرات ما كانت لتنجح، لو لم تكن الشعوب منقسمةً على هذا النحو المؤسف. وهذا معناه أن المرحلة التاريخية العربية الراهنة التي بدأت مع ثورات الربيع العربي سيكون عنوانها الشعوب لا الأنظمة، تماماً كما كانت الأنظمة عنواناً للمرحلة السابقة ببعض نجاحاتها وكثير إخفاقاتها. أما نجاح الشعوب في مرحلتها هذه، فيقوم على مدى تمكنها من التخلص من معيقاتها الثقافية، وهو يحتاج قدراً من التنظيم لا تزال الشعوب العربية تفتقر إليه بسبب عدم وجود مؤسسات مدنية ذات تأثير ثقافي يلتفّ حولها الناس، ما يحصُر إمكانية التأثير بأفراد مفكّرين يتوفرون على رؤية بعيدة المدى وصبر طويل، يمكنهم بجهود فردية، على الأغلب، دفع ثقافة الشعوب للتحول من الطائفية والقبلية إلى المدنية التي تقوم على مبدأ المواطنة. وما يمكن قوله إن السنوات العشر التالية لانكسار أحلام الربيع العربي لم تشهد ظهور مثل تلك "الأقمار المنيرة" بعد.