الصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران
انتقل القلق الأميركي من تشكّل محورٍ يجمع الصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران من الباحثين والمُحلّلين إلى تصريحات السياسيين، لكن مدّى جدّية الولايات المتّحدة في الاعتقاد بوجود مثل هذا المحور (غير المُعلَن عنه من الدول المتَّهمة بإقامته) يمكن أن يتبدَّى عبر تمحيص القواعد التي يدّعي الأميركيون أنّ المحور المفترض يقوم عليها.
نقلت وكالة بلومبيرغ، في أواخر الشهر الفائت (سبتمبر/ أيلول)، في تقرير لها عن مسؤولين أميركيين لم تذكر أسماءهم، أنّ لدى الولايات المتّحدة وحلفائها شعوراً متزايداً بالقلق حيال السرعة والكثافة اللتين تعمل بهما روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية لتعميق علاقاتها لتحدّي الهيمنة الأميركية، رغم أنّهم (كما تقول الوكالة) "واجهوا أقوى العقوبات التي فرضها الغرب على الإطلاق". جاء ذلك عقب شهور من مقال شهير نشرته مجلة فورين أفيرز الأميركية، حذّر من المحور الرباعي الذي يتعمّق بسرعة منذ عام 2022، معتبراً أنّ التعاون المُعلَن بين أطرافه ليس سوى قمّة جبل الجليد من التقارب المُتسارِع، على حدّ وصف كاتبيه؛ مديرة برنامج الأمن عبر الأطلسي في مركز الأمن الأميركي الجديد أندريا تايلور، والرئيس التنفيذي في المركز ريتشارد فونتين.
المسألة الأساسية التي تُجمِع عليها الأصواتُ الأميركية والغربية المُحذِّرةُ من تقارب تلك الدول الأربع، أنّها تبني محوراً يسعى لتقويض النظام العالمي أحادي القطبية القائم منذ نهاية الحرب الباردة، لصالح بناء نظام دولي جديد متعدّد الأقطاب، وتلك قضيةٌ متَّفقٌ عليها فعلاً في خطاب الدول الأربع، التي يتحدّث قادتها ومسؤولوها من دون انقطاعٍ، وبلهجةٍ تتباين حدّتها من دولة إلى أخرى، عن انقضاء عصر الهيمنة الأميركية أحادية القطبية. لكن ما هو غير مُؤكَّد أنّ توافقَ تلك الدول على انتهاء صلاحية النظام العالمي الحالي يعني بالضرورة أنّها تُشكّل محوراً، تصفه تصريحات أميركية وغربية بأنّه "محور جديد للشرّ".
والواقع أنّ ذلك الخطاب الغربي الجازم، القائم على ثنائية "نحن وهم"، إنّما يتغافل عن حجم التباينات الهائلة في تطلّعات تلك الدول الأربع، وفي علاقاتها الدولية وسلوكها وأدواتها، مكتفياً بتوجيه الأنظار إلى الدعم العسكري والتقني الذي تقدّمه إلى روسيا في حربها ضدّ أوكرانيا، ومن ذلك القول إنّ روسيا استخدمت منذ غزوها أوكرانيا أكثر من 3700 طائرة إيرانية مُسيَّرةٍ، وهي تتعاون مع طهران حالياً لبناء مصنع جديد لهذه الطائرات داخل روسيا، وأنّ كوريا الشمالية أرسلت إلى موسكو، منذ بدء الحرب، صواريخَ باليستيةٍ، وأكثر من 2.5 مليون طلقة ذخيرة. بينما أصبحت الصين بمثابة شريان الحياة لنظام فلاديمير بوتين، عبر تكثيف مشترياتها من النفط والغاز من موسكو، ما أدَّى إلى ضخّ مليارات الدولارات في خزائنها، فضلاً عن قيام الصين بتوفير كمّيات كبيرة من تكنولوجيا الحرب لحليفتها المُفترَضة، كأشباه الموصلات والأجهزة الإلكترونية ومعدّات الرادار والتشويش على الاتصالات وأجزاء الطائرات المقاتلة النفّاثة.
يغيب عن الخطاب الغربي تقاطع مصالح الصين مع مصالح دولٍ أوروبيةٍ
وهكذا يغيب عن ذلك الخطاب تقاطع مصالح الصين مع مصالح دولٍ أوروبيةٍ رئيسةٍ، خصوصاً فرنسا وألمانيا، ما يملي عليها عدم الانخراط في أحلافٍ دوليةٍ تتصادم مع الغرب بشكل صريح، على غير موقف روسيا وكوريا الشمالية. ومن الواضح أنّ ذلك الخطاب الغربي لا يُلقي بالاً للتصريحات الرسمية الصينية كلهّا، التي تُؤكّد أنّ ليس في جدول أعمالها العودة إلى سياسة المحاور التي عرفها العالم خلال الحرب الباردة، وأنّ أداتها لتحويل النظام العالمي نحو تعدّد القطبية تتمثّل في الاقتصاد، عبر مبادرة الحزام والطريق وقيادة ما تسميه الصين "الجنوب العالمي". وبينما يبدو التعاون العسكري بين موسكو وبيونغ يانغ جليّاً في نوعية الزيارات التي يتبادلها الجانبان، وتصريحاتهما المشتركة، فإنّ الصين لا تتحدّث عن دعم روسيا في مواجهة أوكرانيا، بل عن إنهاء الحرب بينهما، ولا تحصر علاقاتها مع تلك الدول في الجانب العسكري، بل الأرجح أنّها تستغلّ الضغوطات التي تتعرّض لها تلك الدول من أجل زيادة مكاسبها الاقتصادية، وهذا تفسير أكثر موضوعية لحصولها على الغاز الروسي بأسعار تفضيلية من القول بأنّها تُشكّل مع روسيا محوراً للشرّ. وهكذا الحال في شأن حصول الصين على النفط الإيراني، في الوقت الذي لا تبدو فيه بكّين جادّةً في الانخراط في صراع الشرق الأوسط لدعم حليفتها المُفترَضة طهران، وشركائها في "محور المقاومة"، وتكتفي بالعبارات الدبلوماسية الجاهزة عن الشعور بالقلق والحرص على سلامة المدنيين وإحلال السلام.
وهكذا يبدو أنّ القواعد التي يدّعي باحثون ومسؤولون أميركيون أنّ محور الشرّ الجديد يقوم عليها، إنّما تعبّر عن مخاوفهم وهواجسهم أكثر ممّا تعبّر عن قناعة حقيقية بإمكانية قيام محور دولي يواجه الولايات المتّحدة وحلفاءها. بل ربما يصحّ القول إنّهم يخلطون بين التذمّر العالمي الواسع الذي تعبّر عنه تصريحات مسؤولي تلك الدول الأربع بشأن القطبية الأميركية، وفكرة انقسام العالم إلى محورَين أحدهما للخير وثانيهما للشرّ، بدليل الحديث المُتكرّر عن أنّ تقارب تلك الدول الأربع "يعوق قدرة واشنطن وشركائها على فرض القواعد العالمية"، على اعتبار أنّها قواعدٌ للخير، غرضها خير البشرية وتقدّمها، على عكس ما تقوله شعوب العالم المتذمّرة من أنّ الهيمنة الأميركية لا تراعي إلّا مصالحها ومصالح حلفائها.