لماذا احتلّت أميركا العراق؟
لا تُجيب السطور أدناه على السؤال أعلاه. ليس فقط لأن كاتبها لا يعرف الإجابة، بل أيضاً لأن لا إجابة واضحة معلنة تُفصح عن السبب الذي جعل إدارة الرئيس بوش الابن تقرّر غزو العراق، ثم احتلاله، ثم حلّ جيشه وهدم مؤسّساته، بكلفة نحو 4500 جندي أميركي قُتلوا في الغضون، وأكثر من 800 مليار دولار. ما انكتَب عن "عملية حرّية العراق" (كما سمّوها في واشنطن) وفيرٌ جداً. استفاضت سردياتٌ ومروياتٌ كثيرةٌ عن مقدّمات ذلك الغزو الذي انقضت أمس 20 عاما على اكتماله بإسقاط جنودٍ أميركيين تمثال صدّام حسين في ساحة الفردوس في بغداد، وذاعت تفاصيل التفاصيل لمسار الغزو العسكري والوقائع السياسية والميدانية التي واكبته. ولكن الإجابة على السؤال المتعلق بسبب هذا كله لم تتوفّر بعد، أو لم يحسمها أحد. وهذا ريتشارد هاس، وكان مسؤولا في الخارجية الأميركية إبّان الحرب، ينقل عنه الصحافي في "نيويورك تايمز"، ماكس فيشر، في تقريرٍ قبل أيام، إنه سيذهب إلى قبره من دون أن يعرف سبب الغزو. ولو احتال واحدُنا على عقله، وأقالَه من وظيفته، وصدّق أن دمقرطة العراقيين جعلت مطبخ بوش ورامسفيلد وولفوفيتز وديك تشيني وكوندليزا رايس وجون بولتون وريتشارد بيرل يأخذ ذلك القرار الذي رآه، بعد خراب مالطة، زميلُ هؤلاء، السيناتور جون ماكين، خطأ خطيرا للغاية، فإن هذا "الهدف السامي" لا يستحقّ الكلفة الأميركية المهولة التي دُفعت فيه. وربما في الوسع القول إن خطّةً ما لإزاحة صدّام كانت ممكنةً من دون العرس الانتحاري الذي شوهد على الهواء مباشرة. أما إذا صحّ أن حيازة العراق أسلحة دمارٍ شاملٍ كانت السبب، فليس شعور بوش الابن بالصدمة والغضب (ليس من أحدٍ شعر بهما مثله، كما كتب في مذكّراته)، عندما لم يعثروا على هذه الأسلحة، هو ما يجعل كل هذه القصّة زعما هشّا، بل هي معرفة الأميركان (وكثيرين من حلفائهم) المؤكّدة إن لا شيء من تلك الأسلحة كان في أرض السواد عشية الغزو.
حصيفٌ صاحب تقرير "نيويورك تايمز" في إشارته إلى أن عملية غزو العراق واحتلاله بلا أي لغزٍ أو سرٍّ جرى إخفاؤه، فقد استكشف المحقّقون والصحفيون والباحثون والسياسيون والاستقصائيون كل وجوه ما جرى. والإضافة هنا إن هذا صحيح، باستثناء السبب الحقيقي الذي دفع تلك الإدارة الأميركية الأكثر تطرّفا (دعك من شعبويات ترامب وركاكته) إلى اتّخاذ قرار الغزو الذي جاهدتْ في بحثها عن سببٍ له (علاقة صدّام بالقاعدة، علاقته بهجمات 11 سبتمبر، امتلاكه أسلحة دمار شامل يمكنه بها ضرب الولايات المتحدة، تحرير العراق من الديكتاتورية، العالم بدون صدّام أفضل منه بوجود صدّام ... إلخ). أخبرنا بوب وودورد إن بوش، بعد يومين من "11 سبتمبر"، أبلغ مستشاري الأمن القومي إنه "يعتقد" أن صدّام متورّط فيها.
هل هي رغبةٌ بحرب، بأي حربٍ، تظهر فيها الولايات المتحدة تستحقّ زعامة العالم، بعد إهانتها في واقعة "11 سبتمبر"؟ هل هي قوةٌ بدا العراق عليها غيرُ مسموحٍ بها في الشرق الأوسط لغير إسرائيل؟ هل للحروب أسبابٌ أخرى غير التي تشيع، يقدّرها أهل القرار وحدَهم، وليس بالضرورة أن تُعلن صراحة، وللأكاديميين والصحفيين أن ينفقوا أعمارهم في البحث عنها؟ يقول رئيس وزراء قطر الأسبق، حمد بن جاسم، قبل أيام، لـ"بي بي سي"، إنّ العراق كان القوة العربية الوحيدة القادرة على الوقوف في وجه إسرائيل. هل هذا، إذاً، هو السبب، وقد كانت دولة الاحتلال تلحّ على الحرب، وسعدت كثيراً بالذي أعمله الأميركان في العراق؟.
صدمة بوش من عدم العثور على أسلحةٍ كيميائيةٍ وبيولوجيةٍ لدى العراق لم تدفعه إلى الاعتذار عن قرار الغزو والاحتلال اللذيْن أحدثا الفوضى المعلومة في العراق، البلد الذي تسلّمته إيران التي عُدّت المنتصرة في حربٍ لم تخُضها. أصرّ بوش على أنّ القرار كان صائباً. أما صديقُه والمسؤول الرفيع في إدارته، جون بولتون، فلم يجد داعيا للتواضع، لمّا قال إن الحملة العسكرية كانت "رائعة". وربما رأى نفسه حليما لمّا سمّى تفكيك الجيش العراقي و"اجتثاث البعث" خطأين سياسيين. ولا ينتسب إلى غير منطق "عنزة ولو طارت" قول توني بلير، إنهما، بريطانيا والولايات المتحدة، يمكنهما القول، على الأقل (بتعبيره)، كانا يزيحان ديكتاتوراً، ويحاولان نشر الديمقراطية.
عندما يُسأل في "نيويورك تايمز" عن سبب غزو العراق واحتلاله بعد 20 عاماً عليهما، يصير بول بريمر على حقٍّ كثيرٍ في قوله "هناك الكثير المريح للغاية في فقدان الذاكرة".