لقمان والسيّد "ب"
أوّل ما سمعتُ خبرَ مقتل لقمان سليم، ذهبتْ أفكاري إليك، ورأيتني أخاطبكَ بقهر وأسألك: أرأيتَ بعض ما أودت كلماتُكَ إليه؟ أفهمتَ الآن مدى أذيّتك وشرّك؟ أتقبل أن تكون واحدًا ممّن يسمّون القتلى ويمهّدون للقتل؟ أكنتَ قاتلا بالوكالة، ولم نكن نعرفك إلى هذا الحدّ؟
أراك تتنقّل دونما كلل بين القنوات التلفزيونية، و"الموالية" منها على وجه الخصوص. تظهر أكثر من مرة في الأسبوع، يستضيفونك أنت "مسيحيّ الحزب"، بالمعنى الذي كانت تُستخدم فيه عبارةُ le juif du service، أو "يهودي الخدمة"، أي ذاك الذي يتمّ استخدامه والامتطاء عليه، ووضعه في مقدّمة الصورة كي يدفع عن أسياده تهمة العنصرية أو الطائفية. والحقّ أني لا أفهم، ولن أفهم يوما، شهيّتك الهائلة إلى كلّ هذا الكلام المخاتل، إلى كل هذا الظهور المشين. ما الذي تصبو إليه فعلا؟ أن تكون في مركز الصورة؟ صاحب نفوذ؟ أن تخيف ويكون لك أتباع؟
واللهِ، أنا لا أفهمك يا سيّد "ب". تحيّرني على بساطة أمرك وكثرة أمثالك، وأبقى أفكّر في مسارك وتحوّلاتك، كما أفكّر في تركيب شخصيّةٍ روائيةٍ مصنوعةٍ من نور وظل، سلب وإيجاب. أستعيد مشاهد قديمة يوم عرفتكَ عن قرب، حين أراك تستنجد بماضيك اليساريّ، مستخدما ما أصبح كليشيهاتٍ تتحوّل في فمك إلى إثم، إذ تذكر حقوق الشعوب، والرأي الحرّ، ووباء الطائفية، ونكبة فلسطين، وحقوق المثليين، واغتصاب الفكر، والسلوك الفاشي، .. إلخ. وأنت هذا كلّه وأكثر منه بكثير، في ما ترتكبه يوميا من تجييش، وتوزيع تهم العمالة والتخوين، وتبرير ما لا يُبرَّر، وتجنيد جيوشٍ افتراضيةٍ وواقعيةٍ ضد من لا يوافقونك الرأي. والحقّ أني لا أصدّق أيَاً مما تتلفّظ به، الأحرى أني لا أصدّق أنك تصدّق ما تحكيه من موقع المؤمن بالعقيدة التي يدافع عنها، أو المقتنع بما يلغو به من موقف سياسيّ.
وأحيانا، يطيب لي أن أفكّر أنك "أسير"، وأنك توّرطت إلى درجةٍ لم تعد بعدها قادرا على التراجع، وأنهم يجبرونك على قول ما تقول، والمسدس في ظهرك، أو مصوّب على رأسك. لذا تتأتئ أحيانا حين تكذب، وتبتلع لعابك بكثرة عندما تبرّر ما لا يُبرَّر، مردّدا كالببغاء المطلوب منك ترداده. لكن، عندما أستعيد تربيتك اليمينية، ووسطك البرجوازي، وهذه ليست تهمة موجهة إليك، أقول إنك بقيت في العمق على تطرّفٍ يمينيّ بات مقلوبـًا، أي معاكسا كل ما ظننتَ، وظننـَّا، أنك اكتسبتَه لاحقا، من أريحيةٍ وثقافة انفتاح وتفكير حرّ. حقّا، كيف تنام، يا "ب"، وقد قُتل لقمان سليم، لأنه سبح ضدّ التيار الجارف؟ كيف تنام ولا تفكّر بكمّ الضحايا والقتل والدماء وبمصير هذي البلاد، بلادنا الآيلة إلى انهيار واضمحلال وخواء؟ كيف تدّعي الدفاع عن المُخْضَعين والمهمّشين، وتترك ضعافَ الدنيا ومقهوريها يموتون تحت البراميل المتفجّرة والصواريخ وفي أقبية التعذيب؟ كيف لا يرقّ لك قلبٌ يا "ابن ماري"، وأنت المحبّ للشعر والأدب والفن والجمال؟
والحقّ يقال أنت لم تكن يوما موهوبا في ما اشتهيتَ وحاولتَ وجرّبتَ وأحببتَ من أدب وفن. كان قلبي يرقّ عليك، إذ أراك تفشل، إلى أن استقبلتك الصحافةُ، وبدأتَ تُظهر موهبةً في الكتابة والتحرير. كان هذا رائعا بالفعل، لولا تدجينك وقولبتك بما يتماشى وطموحك الذي لا يحدّه رادعٌ أخلاقيّ او سياسيّ. الدليل؟ إنه ما اعتقدتَ أنك بلغتَه من جبروتٍ تعطيك حقّ أن تُفتي بالموت والحياة، موزّعا صكوك "الوطنية" و"العمالة"، كما كانت الكنيسة توزّع "صكوك الغفران". أنت ملك البروباغندا على بياض، وليس أقوى منك في الساحة، فما رأيك لو ترتاح، وتكتفي بما قدّمتَه من "خدمات" إلى الآن؟ لو كان بعدُ ذلك المراهقُ حيّا فيك، فلا بد أن تفهم دعوتي إليك: استرح، انكفئ، انسحبْ، واكتفِ برعاية قططك التي تحبّ، وكتبك ونباتاتك إن كنت قد اقتنيت منها البعض.
وأخيرا، أوَتدري يا "ب"، أخاطبك وأنا مدركةٌ في عمقي أنّ الوحشَ، متى كبر وانفلت، لن يُعيده إلى قمقم إنسانيته أيُّ شيء.