لقمان سليم ... جنازات كثيرة

10 فبراير 2021
+ الخط -

غداً الخميس، عندما يُدفن لقمان سليم في حديقة منزل العائلة، جنوبي بيروت، تُطمر معه آمال وُلدت مع الموجة الأولى من اغتيالات عام 2005 وما تلاه، ثم ماتت ألف ميتة طيلة الأعوام الـ16 الماضية، لكن دفنها ظل مؤجلاً. بقيت طموحات ما اصطلح على تسميته "الاستقلال الثاني"، أي الاستقلال عن النظام السوري وعن دولة حزب الله المديدة، تتنقل بين منزلتَي الحلم والوهم. والحلم عندما يُقتل يستحيل وهماً.

مع لقمان سليم يُراد دفن مشروع أو قل فكرة عن بلد طبيعي، وجماعات أهلية ليس مطلوباً منها أن تقع في غرام متبادل، بل أن تتصالح وأن تتعاطى بالحد الأدنى من الاحترام والواجبات التي تفرضها المواطنة والذاكرة الجماعية. من بين هذه الجماعات، الشيعة، الشيعة اللبنانيون العرب الذين أصرّ لقمان سليم وغيره على أنهم راشدون سياسياً وثقافياً ولا يرتضون بوصاية إيرانية، يريدون وطناً أيضاً تماماً مثل الشيعة العراقيين العرب الذين كان شعارهم (أريد وطناً) فعلاً سياسياً موجهاً لحكام طهران ووكلائهم المحليين أولاً. تتشح بالسواد غداً فكرة نظام سياسي طبيعي سلمي بلا سلاح مليشيات، بلا اغتيال سياسي، بهوية وطنية وعقد اجتماعي بلا تكاذب... باختصار مشروع عن بلدٍ كل ما يمكن أن يكون فيه مناقض لرؤية حزب الله إلى لبنانٍ لا يجدر أن يكون بلداً بل ساحة حروب تتوالد.

غداً عندما يُدفن لقمان سليم، ستكون مناسبة للجريئين الذين سيشاركون في الجنازة لإجراء إسقاطات كثيرة تبدأ من مكان الحدث: محلة الغبيري ــ حارة حريك، التي لم تعد مع حزب الله لا غبيري ولا حارة حريك، بل مجرد "الضاحية"، مع أل التعريف، العاصمة البديلة، كيان سياسي لا جغرافي، منه تُهدَّد العاصمة الحقيقية كلما تطلبت المهمة ذلك. وسط تلك الضاحية، ينتصب منزل مع حديقة يُسمّيان "الفيلا"، بقيت وحيدة وسط غابة أحجار لا تجد بينها شجرة واحدة. عشوائية خارجة من قاموس الحروب المقدسة. والفيلا عمرها من عمر المنطقة قبل أن تصبح ضاحية، من عمر حارة حريك وبرج البراجنة والغبيري والمريجة والليلكي وسائر بلدات ساحل المتن الجنوبي الذي كان يعج بالأشجار المثمرة، ويسكنه خليط ديمغرافي ومذهبي وطبقي دفنته منذ عقود، الحرب الأهلية ثم الاجتياحان الإسرائيليان (1978 و1982)، فحلّت عملية استبدال سكاني غيّرت وجه المنطقة والبلد. حديقة فيلا محسن سليم (النائب الراحل، والد لقمان) هي المكان الأنسب لاحتضان جثة سليم، ذلك أن فيها تكثيفاً رمزياً لهذا اللبنان الذي يُدفن كل يوم. هناك، كان سيد المنزل نائباً شيعياً "كتلوياً" (من حزب الكتلة الوطنية)، مع ما كان يعنيه ذلك من جرأة متأصلة في الاختلاف والمشاكسة. ومع تولي النائب المحامي الترافع في قضية اغتيال كامل مروة، تكتمل ملامح المقارنات ما بين الأمس واليوم. هناك كامل مروة المزعِج بصحيفة "الحياة" التي كانت فاعلة في زمن الصحف، وقد صفّاه زواج البعثية والناصرية في بيروت أيام "الوحدة". وهنا ابن محامي آل مروّة، المزعِج بجرأته، بصوته المرتفع، بتوصيفه حزب الله والنظام الإيراني من دون استعارات، مزعج بموقف يرى أن ما يشنّعه حزب الله في سورية وفي لبنان واحد، مزعِج بدار نشره وبجمعيتيه وبعمله التوثيقي لقضايا ذاكرتين حربيتين لبنانية وسورية، مزعج بكل شيء، وليس إرث والده ومنزله بعيدين عن ذلك الإزعاج. حتى التنوع العائلي في أسرته، من أم مصرية ـ سورية، وزوجة ألمانية، فإنه صورة مناقضة تماماً للنموذج الذي يفرضه حزب الله بسرعة قياسية. هناك اللون الواحد والصوت الواحد والحقيقة الواحدة والزي الموحد طبعاً، وهنا ألوان واختلافات وآراء ومحاولات ومشاريع ومغامرات وسينما وترجمات وإصدارات وتجارب كثيرة وفشل أكثر ربما. أما خارج أسوار المنزل، فلا مكان للفشل، بل أوهام انتصارات إلهية لا تنضب.

مع دفنه، يخبو أملٌ باحتمال محاسبة إعلام لبناني قتل لقمان سليم منذ سنوات بالتخوين وتحليل الدم وبتمجيد كاتم الصوت. صحيح ما قالوه عن أن العدالة لن تتحقق وإن كنا نعرف الحقيقة. الاحتفال بالقتل يعمّ الجماهير المتعطشة للمزيد. إن كان التهديد خسر جولة عندما لم يخف لقمان سليم، فإن القتل فاز بجولات. بإمكان جوقة الدم عزف أناشيد الانتصارات.