لقد رأينا
لقد رأينا. وما رأيناه رآه العالمُ بأكمله. ونحن، إذ رأينا ما فعلتموه وتُمعنون في فعله، بتنا على يقين أننا لن ننسى، حتى ولو رجونا النسيان وطلبناه حازمين جادّين. أنتم بالفعل لا حدّ لكم ولا حدّ عليكم، تُبيحون لأنفسكم تجاوزَ كل الخطوط، كسرَ كل المحرّمات، ثم الدخول إلى قلب الجُرح، تحريك الخنجر فيه، ثم رشّ الملح، ثم نكئه من جديد. هكذا إلى ما لا نهاية. ثمّة غدّة بشريةٌ فقدتها أجسادُكم، معانٍ أضاعتها عقولُكم، كلماتٌ حفرتم بطونَها وأخرجتم أحشاءها وأحرقتم جلودَها، وأبدتموها من قاموسكم الحياتيّ. هل ما زالت الرَّحمةُ مثلا تعني لكم شيئا، وقد تجاوزتم معاني الذنب والإثم والندم والرادع الأخلاقي؟
لقد قتلتم شيرين أبو عاقلة. حسنا، لا جديد. أنتم تقتلون كلّ يوم، ثم تستأنفون تدرّبكم على مزيدٍ من القتل. وجودُكم كلّه أساسًا قام على فعل قتل. اقتل الفلسطينيَّ، وأقِم في مكانه. اقتله وانكر جريمتَك، بل انكر وجودَه في الأصل. من قتلتَه بيديك وعلى مرأى من آخرين لم يكن. هذه هي ببساطة قوّة الإيحاء. قوّة الإقناع. اقتنع أنت أولا أنّ من قتلتَه هو لا شيء، ومثلك، سيقتنع الآخرون أن من رأوه يسقط مضرّجا بدمائه، لم يروه، لأنه ببساطة لم يكن. فكيف يموتُ من هو لا شيء، من لم يكن، من هو مجرّد ظلّ. أجل، اقتُل ثم ابكِ ممّا فعله بك من مات بصخب، من دون وجل أو خفر. ابكِ واشتكِ وتظلّمْ، واستغرق في وصف رعبك من الضَّعيف والأعزل والضحية، لأن في هؤلاء دماء تلوّث الأرض، ولأنّ لهم أهلا يُقيمون لهم مراسمَ عزاء، وفيهم ندّابات ومعزّون وجيران، ولأنّ لهم مقابر يُوارون في ثراها. فقط، لو أنّك تملكُ أن تُطلقَ عليهم نيرانا تُخفيهم إلى الأبد، رصاصا يجعلهم يتبخّرون، يختفون في لحظةٍ، يندثرون من غير أثر. هذي هي معضلتكم المستعصية، أنّ الفلسطينيّ، إذ يموت برصاصكم، يدخل غصبًا عنكم في أرضه، يُدفن في التربة التي جاء منها، ليعود في نباتها وشجرها ومائها وهوائها.
لقد رأينا. هراواتكم التي جُنّت وانهالت على حاملي نعش شيرين، ضربًا ورفسًا وشتمًا، أياديكم التي انتزعت الأعلامَ وهاجمت النعشَ كأنما لتعاقبه على احتواء من فيه. شيرين القتيلة، الميتة، التي رفعتها الأذرع، ورافقتها العيون، واجتمعت من حولها الأجساد، وبكاها القاصي والداني، أكثر من أن تطيقوها، لذا تراها كلاب كراهيتكم وعجزكم وحقدكم الأعمى قد انفلتت مسعورةً تُريد تمزيق النَّعشَ، محوَ المأتم، انتزاعَ قلب المشهد الجلل الذي لا يني يذكّركم بأنكم إنما وصلتم إلى هنا منذ هنيهة، وأنّ الوقت، الوقت الكبير الهادر مثل نهر متدفّق غزير، لن يسمح لكم أن تركبوه، إذ يكفي أن يهتزّ قليلًا، أو يصحو من نومه متثائبًا، حتى تنزلقوا من فوقه متطايرين.
والحقّ أقول لكم، كم بدوْتم هزالى، ضعفاء، خائفين ومغلوبًا على أمركم، تحت خوذكم وخلف دروعكم وأسلحتكم. بل أنّنا، لولا حزننا البليغ، لكان بإمكاننا أن نضحك من غضبكم، تقدّمكم وتراجعكم كبهلوانات، وتلويحكم بعصيّكم في كلّ الاتجاهات، وقد بدوتم أشبه بحشرةٍ عملاقةٍ منقلبة على ظهرها وأرجلها مرفوعة في الهواء، فيما حاملو النعش ومرافقوه يحمون من جنونكم ابنتهم شيرين.
يا لشقائكم، يا لعاركم. لقد رأينا ما لن يُمحى، ما لن يُنسى، ما لا يزول. لحظات كتلك التي سجّلتموها وأنتم تهجمون على تابوت سيدة قتلتموها بدم بارد ودونما مسوّغ إلّا انزعاجكم من قولها الحقيقة، ثم على أهلها الذين احتشدوا لوداعها، ستؤرّخ لقسوتكم وبطشكم وإجرامكم، بقدر ما ستؤرّخ لغبائكم. لقد خسرتُم منذ زمنٍ معركةَ البراءة والعدالة والحق، وها أنتم تخسرون مجدَّدًا معركةَ الرحمة وحرمة الموت واحترام الإنسان. أكاد لا أصدّق أنّكم كنتم، ذات يوم، ضحيّة عالمٍ متوحّش منزوع الضمير، إذ كيف لا تتعرّف الضحيةُ إلى أختها في القهر والظلم والشقاء؟ لكنّ الذين ماتوا ليسوا أنتم، بل إنكم، بما ترتكبون، إنما تتنكّرون لهم. وهم، لو يرون ما تفعلون منذ أن سرقتم فلسطين، لكانوا شعروا بالخذلان والخزي، ولقالوا إنّهم منكم براء!