22 نوفمبر 2024
لحوم الحمير وإعلامها
حوار أحمد شفيق الممنوع، لامتلائه بالعبوات الناسفة، والهجوم الوهمي على موكب سيارات الرئاسة، الذي أكدته المصادر الأمنية في الصباح الباكر، وكذّبته رئاسة الجمهورية عند الظهيرة، وقبل ذلك تلك القبلة الجدلية بين صابرين وسهير رمزي، وقبل أن تخرج من هذا العرض، يباغتونك بفقرة أكثر إثارة عن معجزة السيسي في المسجد الحرام، والشلل الذي أصاب لسان شخص، وسوس له شيطانه، فقرر الدعاء على عبد الفتاح السيسي، فنزل عليه العقاب الإلهي في التو والحال.. ورئيس يردد، صباح مساء، أنه منتخب بإرادة شعبية، يهرب من مواجهة حفل دولي في جنوب إفريقيا، خشية الاعتقال.
وطن هذا أم مستشفى للأمراض العقلية، تهدمت أسواره، وانفتحت عنابره، وامّحت الفوارق بين الأطباء والمرضى والإدارة.
غير أن الفقرة الأكثر سخونة في هذا السيرك المجنون تبقى معركة البطون المملوءة بلحوم الحمير التي توفرت لها كل عناصر الإنتاج الضخم، من قصة محبوكة، وسيناريو مثير، وميزانية ضخمة للدعاية والتسويق، على نحو جعلها تلتهم ما عداها من أعمال درامية أخرى.
أساتذة وعلماء ومعامل، ودكاترة من الشعب العامل، يشاركون بهمّة في الدعاية للعرض، فعقب الإعلان عن الاكتشاف، تبدأ المناظرات الكبرى حول القيمة الغذائية للحم الحمير، وفوائدها وأضرارها، ولا بأس هنا من استدعاء أستاذ متخصص، ليقول إنها لذيذة وغير ضارة، فيختلف معه آخر، وبينهما تخرج صحيفة أو موقع لتقول إن لبن الحمير هو المشروب المفضل في دولة لاتينية، ومع استعار الجدل واشتعاله، تحال القضية إلى المفتي، فتخرج دار الإفتاء، بعد يومين من الاشتباك، لتقول إن ذبح الحمير وأكلها محرم شرعا.
ومع ذلك، دعني أشاركك الصدمة والدهشة والانبهار، وأمثل معك دور المفزوع من التفاصيل، واسمح لي أن أقول لك إن الحق ليس معك في هذا الاحتجاج والاعتراض.
إنهم يملأون معدتك بلحم الحمير، ويحشون رأسك بإعلام الحمير، وينكّدون عليك عيشتك بسياسات الحمير الاقتصادية، فتترك كل ذلك وتبدي انزعاجا غير مبرر من اكتشاف يلح الإعلام على ترويجه، بأن المطاعم الشهيرة تعتمد على لحوم الحمير المذبوحة.
لقد سلمت لهم رأسك يعبثون به، ويلقون فيه بكميات هائلة من المعلومات والأخبار والشائعات والبذاءات، بما لا يليق بالبشر، وعلى الرغم من ذلك، تتناولها بتلذذ عجيب، وتقول هل من مزيد.. كما سلمت لهم ضميرك يعدمونه حيا، ويقدمونه مطبوخاً ومشوياً، في أطباق فاخرة، عبر وسائل إخراج وتصوير مبهرة، ليقولوا للعالم إن الشعب راض وسعيد، باختياراته .. فإذا كنت قد فوضتهم بالتصرف في العقل والضمير، فكيف تعترض إذا تولوا شؤون معدتك؟
ستقول لي إن ذبح الحمير حرام، فأسألك لماذا لم تعترض على ذبح البشر وشوائهم في أكثر من مناسبة، مع انقلاب جنرالك السعيد؟
لماذا لما تشعر بالوخز وتحس بالذنب، وأنت تنهش في لحوم مصريين مثلك، وتبرر قتلهم وذبحهم، واعتبارهم كائنات في مرتبة أقل من البشر؟
هل ذبح البشر في رابعة العدوية حلال، وذبح الحمير في مزرعة بالفيوم حرام؟
هل طهو الإنسان في سيارة ترحيلات مقبول، وطهو الحمار في مطعم من فئة الخمسة نجوم مرفوض؟
إذا كنت قد سكت عن الاستحمار السياسي والاقتصادي والمجتمعي والإعلامي، فكيف تصرخ من "استحمار غذائي" وتحتج؟
وإذا كانوا قد أقنعوك بأن قتل الديمقراطية وإبادة المتمسكين بمخرجاتها، من شأنه أن يجعل مصر من أغنى دول العالم في غضون شهور، ويجعلها "قد الدنيا" في سنوات قلائل، فلماذا لا تقتنع بإلحاحهم على أن سعادة الإنسان وصحته في تناول لحم الحمار؟
وإذا كانوا قد أقنعوك بأن حصار غزة ومحاربة سيناء وتهجير سكانها، ومصادقة إسرائيل، وكراهية تركيا وقطر، هي من ضرورات الأمن القومي، فما الذي يمنعهم من محاولة إقناعك بأن ذبح الحمير ساهم بشكل كبير في حماية أمن مصر الغذائي؟
وإذا كان حبك الوطن قد دفعك إلى تصديق أن كل من يعارض السيسي خائن، وكل من يتمسك بثورة يناير عميل وطابور خامس، فلماذا لا تصدّق، من باب الوطنية أيضا، أن لحم الحمير هو الألذ والأشهى، والأكثر فائدة؟