لبنان نحو المجهول

10 أكتوبر 2022
+ الخط -

لا تكفي الإشارات الإيجابية وممكنات الخروج من الأزمة في لبنان، مع اقتراب انتهاء ولاية رئيس الجمهورية ميشال عون، أو التي تأتي من الاتفاق الرسمي على ترسيم الحدود البحرية (من دون تفاصيل وتشكيلات يمكن تبنيها، مع انفصال الرئاسات الثلاث عن المجتمع)، أو إقرار موازنة عامّة تخفض نفقات الأسرة اللبنانية إلى النصف، والطبقات الفقيرة سوف تدفع الثمن (83%)، والاقتراب بشقّ الأنفس من خطّة تعافٍ مع صندوق النقد الدولي (يتبيّن أنها غير موجودة)، لتكون الأمور حقيقية. أسباب الانقلاب قائمة، وغير ممتنعة عند الإدارة السياسية التي لا تستجيب لضرورات الامتناع عما يسيء إلى اللبنانيين، والتصرّف على نقيض عروض إمكان الخروج من الدوامة، ووجوب تأمين احتياجات الناس، والإيفاء بشروط المؤسسات الدولية، وسط عدم ملاءمة متزايد في وسائل الضبط الكلاسيكية. 
تدخل البلاد في حذر شديد، ولم يبقَ سوى أيام من وداع رئاسة، ولبنان كيان هشّ معرّض للخطر، وسط مخاوف من تكرار مغامرة شعبوية تقحم البلاد في المجهول، في تكرار تاريخي لمرتين (كارل ماركس)، لسيناريو 1989 - 1990، على شكل كوميديا سوداء، أن تكون الرئاسة الأولى محاصرة مجدّداً بالقوى الإقليمية والدولية التي حاصرتها في أكتوبر/ تشرين الأول 1990، ولأنّ التراجيديا حصلت في الانهيار الكبير على المستويات كافة، كأنّها في الدولة الوطنية – الاشتراكية، مجتمعاً يتحدّد في تناقضاته. ومن خلال خطوط الانفلات، كآلة سياسية مفرطة، وغير قادرة على تحديد محيط البيئة المتعاضدة معها، كأن تبقي التركيبة القائمة الوحيدة القادرة على تأمين إعادة توزيع السلطة وتوزيع الثروات بينها، وتجميع المخاطر.

من المفترض أن تؤكّد الانتخابات الرئاسية نتائج انتخابات نيابية، ترجمة لإرادة شعبية وإبطال أشكال السيطرة

أن يكون في لبنان سلطة يعني شيئاً، وأن تسمّى فقط سلطة شيء آخر، فلبنان يواصل انزلاقه نحو الجحيم. لم يبقَ من احتياطي البنك المركزي إلّا ثمانية مليارات ونصف مليار دولار، هي كلّ ما تبقى من مدّخرات المواطنين بالعملات الأجنبية، كانت المصارف أودعتها خزينة المصرف، والتي استهلكتها الدولة، متسببّة بخسائر مالية هائلة، وتسببت بارتفاع أسعار المواد الغذائية، وتضخم بلغ هذا العام أكثر من 333%، ما سوّغ  فوضى لجوء اللبنانيين إلى الاقتحامات المصرفية، بمشاركة مشرّعات برلمانيات (سنتيا زعرور وحليمة  قعقور في ثورة عامية أنطلياس البنّكية!) ما يعني عدم قبول القسمة والامتيازات في رواية "البؤساء". مظهر من مظاهر تحدّي فكرة الأوتوقراطيات الحاكمة كشرعنة للطبقة المتسلطة، تزيد المسافة الخطرة بين الزمنين، الاجتماعي والسياسي. كأنّ الإذلال هو الذي يوحّد كلّ مشاعر الضغينة من السلطتين، السياسية والمالية، مع توقع الزائد من تدهور الأوضاع إلى الدرك الأسفل. 
تبدو عملية الإصلاحات منغلقة، فضاء يتعذّر الإمساك به، أصعب من انتخابات الرئاسة نفسها، ومن دون أن تؤدّي الجهود إلى تعويم حكومة تصريف أعمال، بين المعلن والمضمر (فشل التأملات الخامسة الديكارتية)، لتعزيز ما هو شرعي في استمرارية عمل المؤسّسات. هو سباق مع الوقت، مع المجهول. من المفترض أن تؤكّد الانتخابات الرئاسية نتائج انتخابات نيابية، ترجمة لإرادة شعبية وإبطال أشكال السيطرة. لكنّ الجلسات تجري من دون ضوابط لروزنامة ديمقراطية. خطاب طرح اسم رجل الأعمال، سليم إدّه، في الجلسة الأولى، عكس التزاماً ومحاكاة لمثال اغترابي ناجح، جانب النواب التغييريين المستمرّين في طرح أسماء وتطلّعات متناقضة. لكنّ العملية السياسية تتجاوز هذه النظرات، لا تعمل إلّا لحظة من الوهم السياسي، من أنّ الرئيس المقبل سيلتزم بالقاعدة الرئيسة في اللعبة الديمقراطية، في غياب المواهب، وسوء النوعية السياسية، في لعبة صراع من أجل الوظائف خلف قيادة مشخصنة. لعبة مستهلكة، محكومة بالفيتوات، إلّا إذا جرى الاتفاق على نسق جديد من الممارسة السياسية، وقدرتها على التجريب. إمكانات ذلك محدودة، فحزب الله يريد ضمانات أكثر من ذلك، وفي كلّ شيء، يريد "رئيساً مع المقاومة، وهو لا يجازف في مثل هذه المواضيع في انتخابات ديمقراطية "دستورية بسيطة"! لا سيما أنّ ملف الترسيم البحري سيدخل الحزب في ملفٍ آخر مختلف من رئاسة الجمهورية... يريد الرئيس برّي رئيساً توافقياً بإمكانات ضئيلة وتوافق مسبق، فيما الطرف السيادي يظهر نفسه في زمن واقعي أقلّ تشدّداً، يترك المجال مفتوحاً للتوافق، وإمكانية الوصول إلى مخرج مشترك لا يمحو الخطابات الأخرى للآخر. المسألة المثيرة أن تكون مهمة الإصلاح، وإقرار خطّة التعافي، والسريّة المصرفية، والكابيتال كونترول متعثرة. في وقت أدخلت فيه الأحزاب السياسية في السنوات الأخيرة عشرة آلاف من الموظفين والمعتاشين لديها في الإدارات العامة، فتأتي خطة صندوق النقد الدولي في خمس صفحات، وملايين الصفحات ضدها!

يحتاج لبنان روزنامة إطار تمنع الانزلاقات، في ظرف عالمي لا وجود فيه لأوهام تعمل ضد ما قد يحدث في المستقبل

تصريحات إيجابية مبالغ فيها خارج حدود الممكن في موضوع الترسيم البحري مع إسرائيل بوساطة أميركية، وإسرائيل التي قيل إنّها ستخضع لشروط حزب الله تهرب بالخطة إلى ما بعد الانتخابات المقبلة. نقطة الترسيم اعتبرت الأكثر إيجابية للعهد الذي ينازع في اللانظام السياسي العام، ولفترة تلي إنجاز الفترة الرئاسية، والقدرة على إيجاد حلول، ليس من المؤكّد أن تشكّل استثناءً على هذا المستوى، في دولة ناقصة. لكنّ وضعاً كهذا يعتبر أفضل من اللادولة، في سياق تفاوضي غامض تنازلي، أفقد لبنان آلاف الكيلومترات في مفاوضات الترسيم مع قبرص وإسرائيل وسورية... لقاءات المجموعة الأوروبية وإعلان الثلاثية الأميركية/ الفرنسية/ السعودية، عكس شيئاً من بركة الرعاية الدولية التي تدعو إلى إنجاز انتخابات الرئاسة في مواعيدها الدستورية. وتربط موضوع اتفاق الطائف بالسلام في لبنان. جملة ذات خصوصية مفيدة جداً، لعدم الذهاب بعيداً في طرح قضايا التعديلات الدستورية، واللبناني يعاني ألف مشكلة. يحتاج لبنان روزنامة إطار تمنع الانزلاقات، في ظرف عالمي لا وجود فيه لأوهام تعمل ضد ما قد يحدث في المستقبل. 
قد يمتدّ الفراغ في حالة فوضى الانقسامات السياسية، ما يعني نهاية قصص وفوضى موت فقد إيقاعه الاستثنائي على متن القوارب الغرقى. في حين أنّ المطلوب سلوك آخر تستجيب له الأطراف السياسية، يخشى حزب الله أن يكون جزءاً منه، وهو صاحب قرار آمر، ويطرح سلطته وخدماته. لكن الحزب مدعوٌّ إلى ابتكار دور أساسي في حلّ المشكلة الاجتماعية، وبعد رفضه السابق التدخل في المستوى الداخلي السياسي. فجأة يتغيّر الموضوع، ويدخل التنقيب عن الغاز في صلب العلاقات العامة السياسية، كمنصة للتمويل والحماية. يريد الحزب عائدات التنقيب عن النفط ليعزّز موقعه أكثر، وهو يعلن جهاراً رفضه الإصلاحات، والأفكار، وأعمال المصارف (الإمبريالية)، والقواعد والأنظمة المتوفرة. في المقابل، أتى شعار "كلّن يعني كلّن"، بـ13 نائباً تغييرياً، عادوا وتكلموا مع الجميع الذي لم يقبل تمثيلها، فيما يختبر آخرون ما يمكن أن يعتقد تكتلات غير انقسامية مع طرفٍ مفرطٍ ذي وجهة واحدة. نرى الأمور بعضها إلى بعض .. هنا الصدمة، والمطلوب الحقيقي ما يجرى تناسيه، إدارة سياسية تستبق ذوبان الكيان، حتى يتمكّن العالم من مساعدتها.

يقظان التقي
يقظان التقي
إعلامي وأكاديمي ومترجم لبناني، له عدد من الكتب، دكتوراة في الدبلوماسية والعلاقات الدولية.