عن حرب المُسِنَّين في "سي أن أن"

01 يوليو 2024

ترامب وبايدن في المناظرة الأولى في استوديوهات "سي أن أن" في أتلانتا (Getty 27/ 6/ 2024)

+ الخط -

شهدت المواجهة الأولى الشخصية بين مُرشَّحَي الرئاسة الأميركية، الرئيس الحالي جو بايدن وسلفه دونالد ترامب، في شبكة سي أن أن التلفزيونية، مناظرةً محوريّةً ومثيرةً للجدل مع بدء العدّ التنازلي لموعد الانتخابات الرئاسية، المُقرَّرة في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، وهي المناظرة الرئاسية الأولى بعد المواجهة بين الرجلَين في العام 2020، وأثارت ردّات فعل في الطيف السياسي الأميركي، وأخرى دولية بين الحلفاء والمنافسين العالميين.
غالباً ما تتّجه الأنظار إلى هذا الفضاء التلفزيوني الأميركي فرصةً لإقناع الناخبين المُتردّدين، وتوضيحاً أكثرَ للنيّات في التصويت، وللتأكّد من أرقام استطلاعات الرأي. وتعدّ المناظرة الاستثنائية الأولى، التي تجمع بين رئيس حالي ورئيس سابق في خضمّ سياق من القضايا العالقة، وفي نسق فوضوي من الاتهامات المتبادلة بشأن قضايا مثارة مثل الإجهاض، وإدارة الاقتصاد، والهجرة، والسياسة الخارجية، والقضايا القانونية، والتهديدات للديمقراطية، وتداعيات الحرب في كلّ من أوكرانيا وغزّة. ويواجه كلٌّ من بايدن (81 عاماً) وترامب (78 عاماً) تحدّياتٍ كبيرةً لإثبات أهليتهما وقدرتهما في التعامل مع هذه القضايا كلّها، أمام نسبة من الشباب الأميركي تراوح بين 20 إلى 25% من السكّان.
كانت ليلةً تلفزيونيةً (ما زال تأثير التلفزيون كبيراً ومقيماً في الرأي العام، ويعكس صورةً مؤثّرةً في زمن التحوّلات السياسية والاجتماعية والثقافية والتكنولوجية) مليئةً بالأحداث والانفعالات، في سياق انتخابي مُتشدّد ومتعادل، إذ يُعتبر كلٌّ من المُرشَّحَين تهديداً لمستقبل أميركا عند حلفائه. قضى الديمقراطيون، ومعهم بعض العالم، ليلةً صعبةً لجهة الاطمئنان لأداء بايدن في المناظرة، وأنّ مُرشَّحهم لا يزال يملك الاختيار الصائب للمنافسة، والقدرة على معالجة القضايا الرئيسة، والاقتصاد، والتغيّر المناخي، والتركيز على النهج العلمي في إدارة الأزمات، في حين أن تركيز ترامب على إعادة فتح الاقتصاد ومواضيعه الساخنة في النقاش، مثل ترحيل المهاجرين غير الشرعيين جماعيّاً، ما سيؤثّر سلباً في الاقتصاد، ولن يساهم في حلّ مشكلة التضخّم والركود، ويفاقمهما بسبب أخطائه السياسية.

السؤال ما إذا كان في وسع بايدن البقاء أربع سنوات أخرى أثار مخاوف الناخبين الديمقراطيين، ودخلوا في نقاشات لاستبداله

في الصعيد الفردي، رأى بعضهم أنّ بايدن كان أكثر تماسكاً في المحتوى، وأقلَّ استفزازاً، ما أعطى انطباعاً بالاستقرار، في حين كان ترامب عدوانياً وأكثر ميلاً إلى الهجوم والخروج من السيناريو المُحضّر مُسبقاً. لم تتغيّر الردود الداخلية في صعيد قواعد الدعم الخاصّة بكلّ مُرشَّحٍ. رأى أنصار ترامب في أدائه قوّة، بينما اعتبر أنصار بايدن أداءه هادئاً ومتماسكاً. وانقسمت وسائل الإعلام الأميركية بسبب الفوضى والمقاطعات. ورأى بعض المُحلّلين أنّ بايدن تمكن من الحفاظ على هدوئه، وتقديم رسالة واضحة رغم تباطئه وتردّده، بينما كانت استراتيجية ترامب تتعمّد الهجوم المباشر والمقاطعة. لكنّ الشبكة التلفزيونية، الأكثر تأثيراً في الميديا الأميركية والعالمية، عمدت بطريقة غير مسبوقة إلى إظهار الحزب الديموقراطي في موقع من ورّط نفسه بترشيح بايدن (لا يمكن تغييره إلا بمبادرة الانسحاب الاختياري، وعلى الأرجح لن يستمرّ هذا الترشيح)، وعَرَضت خريطة أسماء بديلة، مثل نانسي بيلوسي، وكامالا هاريس، وحاكم كاليفورنيا الديمقراطي غافن نيوسوم، وآخرين. وهذا لا يتعلّق ببعض أسماء الأشخاص في المستوى الفيدرالي، لكنّ المشكلة تتعلّق بالبيروقراطية الأميركية في بلد متقدّم ومتنوّع، إذ تعقيد قواعد عديدة مذهل عند الديمقراطيين في فهم السياسة الخارجية؛ الاقتصاد وقوانين التجارة أو المال أو الطاقة ولوائحها.
في الصورة، بايدن وطني، لكنّه لم يعد قادراً على القيام بالمُهمّة، وتركيزه مفقود، في حين أن ترامب أكثر حيويةً، لكنّه يعتمد على الشعبوية والمبالغة، ولا يمكن إصلاحه، وليست هذه صفات الرئيس المُقبل، ولن تقوده إلى الربح. وكلاهما خاسر. يشعر الديمقراطيون بالألم والاضطراب والصدمة بعد تعثّر مُرشَّحهم اللفظي في أثناء الكلام، وتعرّجه في بعض الأحيان في ردوده (أكبر رئيس أميركي سنّاً في التاريخ، واستطاع النجاة وأداء مناظرة مدّتها 95 دقيقة). لكنّ السؤال بشأن ما إذا كان في وسعه البقاء أربع سنوات أخرى، أثار مخاوف الناخبين الديمقراطيين، ودخلوا في نقاشات لاستبداله، مع أنّ فرص انسحابه ضئيلةٌ، وسيحتاج خروجه من السباق إلى عقد مُؤتمر ديمقراطي في أغسطس/ آب المُقبل. ويشعر الجمهوريون بالخجل حين يقارنون مُرشَّحهم الحالي، المُلاحَق في المحاكم، بالرئيس رونالد ريغان الذي شجّع دور المنظّمات غير الحكومية والمجتمع المدني، والرئيس جيرالد فورد، الذي وقّع قانونَ الحقوق المدنية 1976 موسّعاً حقوق المرأة والأقلّيات، والرئيس جورج بوش، الذي أنشأ مكتب المُفتّش العام لمكافحة الاحتيال والهدر في الإدارة الحكومية.
كانت المناظرة بين من لا ينبغي أن يأتي رئيساً في مستوى الوظيفة في مثل عمر بايدن (سجّل تراجعاً في استطلاعات الرأي بعد المناظرة، ولا يمكن أن يتعافى)، ومن لا يستطيع أن يكون رئيساً؛ ترامب (المتّهم بقضايا جنائية، ويُظهر حوله الفوضى والاضطراب)، ما اضطرّ القناة التلفزيونية إلى إدخال تغييرات مثل قطع الميكرفون لضمان أن يتمكّن كلّ مُرشَّحٍ من التحدّث من دون مقاطعة، مع تقييد حركة الجسد، والإبقاء على تعبيرات الوجه وعلى حركة اليدَين، وعلى الإيماءات والوضعية الجسدية العامة من دون التفاعل مع المحاورين.
لا مجال للمقارنة بين شخصية مُرشَّحَيْن على تناقض كبير في سياستيهما الداخلية والخارجية، ولا حاجة إلى التحليل النفسي بشكل مُتقدّم عندما يتعلّق الأمر بفهم سلوكهما، وفهم مواقفهما واستراتيجياتهما. لذلك، كانت المناظرة محطّة أخرى من عدم الوضوح، وهي أيضاً، سمة الانتخابات التشريعية الفرنسية (ترجيح أكثريّة ستكون لمصلحة التجمّع الوطني، وقيام تحالفات مخالفة لآليات عمل النظام المعمول به في الجمهورية الخامسة).

سيكون 2024 عاماً تاريخياً للديمقراطية مع أكثر من 30 عملية انتخابية في العالم، والتركيز على الأثر الاقتصادي لتلك المعارك في السوق الديمقراطية

على العموم، كانت المناظرة تعبيراً عن الديمقراطية الأميركية المعاصرة في التعامل مع الإنترنت، مع زيادة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي. وكانت ردّات الفعل، والتعليقات الفورية من الناس، أكثر وضوحاً وتأثيراً. وفي صعيد الردود الدولية، رحّب الحلفاء التقليديون من الدول الأوروبية وكندا، بأداء بايدن الهادئ والمستقرّ، وبالعودة إلى الدبلوماسية التقليدية في العلاقات الدولية. ورأى المنافسون العالميون مثل روسيا والصين في فوضى المناظرة انعكاساً للأزمة السياسية الداخلية في الولايات المتّحدة. أمّا الأسواق المالية فهي تميل إلى الاستقرار، مع رؤية مُرشَّح مُستقرّ يمكن التنبؤ به عاملاً إيجابياً مساعداً للتجارة الدولية والعلاقات الاقتصادية.
في التقييم الشامل، يحتاج العالم إلى صورة أكثر استقراراً واعتدالاً، وهذا يلاقي قبولاً في نطاق واسع، داخلي وخارجي، في حين أن العدائية والكراهية تُنفّران الباحثين المُستقلّين الذين يبحثون عن أميركا الأكثر هدوءاً، قبل أن يكون الرئيس جمهوريّاً أو ديمقراطيّاً. والديمقراطية ليست حكراً على حزب، بل هي مجموعة من المبادئ والقيم الإنسانية، سيّما حين يتعلّق الأمر بالدعم الأميركي المطلق لإسرائيل في حرب الإبادة بحقّ الشعب الفلسطيني في غزّة.
سيكون 2024 عاماً تاريخياً للديمقراطية مع أكثر من 30 عملية انتخابية في العالم، ومع التركيز على الأثر الاقتصادي لتلك المعارك في السوق الديمقراطية، وفي أيّ أيديولوجيا سياسية أيضاً، ومع أيّ قادة جُدد. فهل يكون التركيز أكثر على آفاق الاقتصاد، وليس على النظام السياسي؟

يقظان التقي
يقظان التقي
إعلامي وأكاديمي ومترجم لبناني، له عدد من الكتب، دكتوراة في الدبلوماسية والعلاقات الدولية.