حين يسقط النظام الدكتاتوري

11 ديسمبر 2024
+ الخط -

انتهى الأمر. سقط نظام بيت الأسد بعد توسّع حكم استبدادي ظالم وصارخ وعنيف تجاه الشعب السوري والمدنيين وتجاه جواره من الدول العربية. أنشأ حافظ الأسد نظاماً ديكتاتورياً على مساحات واسعة من المحيط بشعارات زائفة، ٳلى أن تحوّل ٳلى عدو للشعب السوري بعد العام 2011، بعد أن بدأت حكومة بشّار الأسد الابن في قمع الاحتجاجات الشعبية، والتمرّد على القرارات الأممية، ما أدّى ٳلى خسائر بشرية كبيرة وتراجع اقتصادي وٳنساني. رحل حقاً النظام البعثي مع كل أوراق القوة التي أمنت له البقاء على رقاب السوريين. انتهت الوظيفة التي صادر فيها القضيتين، اللبنانية والفلسطينية، وعلى مستوى أيديولوجيا المقاومة والسيادة القومية على الٳقليم ككل، وهو يمارس من خلالها ضغوطاً على العالم كحديقة خلفية لديمومة حكمه الطويل.

كان الرحيل محتوماً، وقد فوّت النظام (لم يكن التنازل يوماً عنده جزءاً من سياسة السلطة البعثية التي كانت تعرف منطقاً واحداً هو القوة) فرصة غنية بالمحاولات الدولية والعربية المتكرّرة على مدى سنوات لٳعادة تأهيله سياسياً. لم يستفد من النصائح التي قدّمت له أممياً، ولم يبادرها بخطوة واحدة أو مبادرة من شأنها ٳطلاق دينامية حل سياسي ومصالحة مع المعارضة وٳعادة اللاجئين في مقابل مساعدات اقتصادية وسياسية تساعده على ٳعادة الاندماج في النظامين الدولي والعربي. كما فوّت أخيراً فرصة المصالحة مع تركيا، وجاء انتخاب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ليؤشّر ٳلى متغيّرات بالغة الأهمية في السياسات الخارجية للولايات المتحدة، لا سيّما لجهة ملاقاتها روسيا في مسألة ملف الحرب الأوكرانية. وأخفق الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في إقناع الأسد بالدخول في تسوية سياسية مع مساحات واسعة في البلاد، ما جعله عرضة لمواجهة تقدّمت فيها الفصائل العسكرية المعارضة في لحظة خاطفة، لم تستغرق سوى 11 يوماً، أرغمته على ترك البلاد نهائياً.

المتمرّدون الشباب من هيئة تحرير الشام، الذين قادوا التقدّم العسكري ٳلى دمشق، يخرجون من الظل من صفوف اللاجئين وسكان المخيمات، أولئك الذين فتحوا أعينهم في عمر مبكر على الثورة السلمية الأولى في 2011، وعايشوا عجز العالم والمؤسّسات السياسية الدولية عن إطاحة سلالة أوليغارشية تسيطرعلى الدولة.

قد يكون أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) مجرّد رجل عادي، غير أنه رجل ذكي وطموح للغاية

تدخل سورية في مرحلة جديدة على المستوى الداخلي ودورها الٳقليمي. مستقبل البلاد مليء بالغموض، فقد بدأت الحكومات الأجنبية تدريجياً تحويل مواردها بعيداً ٳلى تحدّيات عالمية أخرى، إلى حين البدء بتلمس ترتيبات المرحلة الانتقالية، لكن أحداً لن يأسف على بيت الأسد.

أجمع السوريون، بعد ما يقرب من 50 عاماً على تجميد خطوط الحياة وأصولها، على رغبتهم بالعيش في بلد واحد يجمع توجهاتهم وطوائفهم، بفرح ولادة سورية جديدة وديمقراطية. العلامات المبكرة إيجابية نسبياً مع عدم وجود ضغط على المجتمع السوري. قد يكون أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) مجرد رجل عادي، غير أنه رجل ذكي وطموح للغاية في تمحور اللحظة المناسبة البراغماتية لانشغال حلفاء النظام من حزب الله وإيران وروسيا بصراعات أخرى. وقد تمتد هذه البراغماتية إلى أسلوب الحكم، وينظر إليه أنه من منظّمة عسكرية محافظة تفتقر إلى الديمقراطية. لكن حركته أوفت بوعودها بالتسامح الديني في المناطق التي سيطرت عليها سابقاً في محافظة ٳدلب، وهي تدير الشؤون المدنية في شراكات مع المجموعات الأخرى وبطابع تكنوقراطي من إدارات ووزارات. كما عملت مع الأمم المتحدة في تشكيل خطوط اتصال مع الحكومات الغربية.

يقال ٳن الجولاني كان يفكر في حل "هيئة تحرير الشام"، ليتمكن من الدمج الكامل للهيكلية المدنية والعسكرية في مؤسّسات جديدة تعكس اتساع الفكرة السورية. لكن هناك مخاوف من أن يواجه كادر قيادة الجولاني انشقاقاً واقتتالاً داخلياً، ولا يعرف حينها كيف ستتحرك الأمور، خاصة أن التنظيم يرتبط بشخصٍ واحد، نجح في بناء "جيش محترف" مع معدّات وأجهزة أفضل من معدّات الجيش السوري، وتعلم دروساً كثيرة من خسائره في الحرب الأهلية السورية. وهو اليوم نموذج القائد الكاريزمي. كأنه من عصر فولوديمير زيلينسكي الذي يرتدي زيأً عسكرياً بسيطاً منذ الغزو الروسي في فبراير/شباط 2022.

مرحلة ٳنتقالية في سورية تثير واقعياً تساؤلاتٍ بشأن قدرة الجولاني والدول المعنية بالملف السوري

مرحلة ٳنتقالية في سورية تثير واقعياً تساؤلاتٍ بشأن قدرة الجولاني والدول المعنية بالملف السوري، لا سيما روسيا وتركيا (الرئيس المنتخب دونالد ترامب ليس بصدد أن تتدخل بلاده في صراع داخلي في دولة "غير صديقة لأميركا") في وقف انتشار الفوضى ٳذا حصلت، وأن لا تكون المرحلة الجديدة أكثر تكلفة، فتصبح الانقلابات مادة ٳعلانية لا تهم الناس. أي سلطة يجب أن تكون وثيقة الصلة بعنوان الشعب، وحينما يكون هناك تفاوتٌ بين السياسات ومعتقدات الناس، سيوجد الفراغ الذي سيُحدث الاضطرابات في مناطق ذات طابع أيديولوجي وديني محلّي.

يقدّم التاريح سبباً كافياً لمثل هذه الشكوك حول اختلافات تميز بين اتجاهاتٍ لا تختزلها حركة عسكرية خاطفة في مجتمع له تاريخه السياسي الأكثر اضطراباً. لكن الفرصة قد تكون مختلفة مع تراكم الشروط الموضوعية للانصهارالوطني. حجج كثيرة تدعم الاعتقاد بأن الأولوية الرئيسية ستكون للناس وبقوة الفوائد التي يقدّمها تحقيق المتطلبات الدنيا لتحقيق تقدّم اجتماعي، تنموي، ديمقراطي. وما يمتد إلى مرحلة سياسية مستقرّة من خلال قراءة الواقع والكفاءة في تحليل ما يحدُث من صراعات في المنطقة، ومن تفكّك الدولة نتيجة المسارات العسكرية والنزاعات البينيّة، لذلك أهمية التعجيل في الحل السياسي.

فشل فلاديمير بوتين في دعم بشار الأسد، وسيحاول التكيّف مع الوضع الحالي بدل الانسحاب المحرج لطموحات روسيا الجيوسياسية في البحر المتوسط وأفريقيا

يجب ألا يعطى السوريون تأثيرات مضللة. كل ما جرى من تحرير للمعتقلين والمعتقلات خطوة إيجابية جداً، وهي علامة لمرحلة سياسية لا تخطئها عين. هذا لا يعني أن سورية تسير بالطريق الصحيح في مسارٍ يبني الدولة والأمن والسلام المستدام. وهذا لا يتم عبر فصائل عسكرية وبمكونات مذهبية، إنما في إطار الدولة ومؤسّساتها في مسار سياسي/دستوري يؤسّس لسورية حديثة وبناء تشريعات داخلية واقليمية، وبالضغط للتفاوض على اتفاق سلام بشروط موضوعية للانصهار. أي تفادي نماذج التدهور الإنساني مع وجود عوامل اجتماعية واقتصادية كامنة، من شأنها أن تشكّل الأرضية المشتركة لموجة صدامية جديدة ضد الحكم المطلق في مسار عسكري غير مضمون النتائج في حالة الصراعات العسكرية والتشرذم على خلفيات قومية أو مذهبية، تضاف إلى الثورات العربية المجهضة.

فشل فلاديمير بوتين في دعم بشّار الأسد، وسيحاول التكيّف مع الوضع الحالي بدل الانسحاب المحرج لطموحات روسيا الجيوسياسية في البحر المتوسط وأفريقيا، وعبر التفاوض مع الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي سيستفيد من توسع نفوذه الإقليمي، من خلال دور وسيط القوة الرئيسي الآن في سورية.

كان سقوط الأسد نتيجة مباشرة لكل من حرب أوكرانيا وغزّة، ولتاريخ 7 أكتوبر (2023) الذي غيّر المعادلة الإقليمية والعالم، واميركا تخاطر من أجل اخراج إيران من سورية (أبرز نتائج معركة اسقاط النظام الإقليمي الذي بنته من خلال"الهلال الشيعي"، أو"محور الممانعة")، وتسليمها للإسلام السياسي وأردوغان، أو الفوضى التي قد يرى فيها بنيامين نتنياهو فرصة لتوجيه ضربة إلى إيران، وإسرائيل أخذت كل الاحتياطات لمواجهة اي تهديد ضدها.

يقظان التقي
يقظان التقي
إعلامي وأكاديمي ومترجم لبناني، له عدد من الكتب، دكتوراة في الدبلوماسية والعلاقات الدولية.