لبنان في المؤشّر العربي: يا للهوْل

16 يناير 2023
+ الخط -

ذاع كلامٌ وفير، في عقودٍ مضت، عن فرادة لبنان واستثنائيّته في محيطه العربي. وللحقّ، ثمّة الكثير مما هو بديع القيمة في هذا البلد الصغير. وفي الغزير الذي ساهم به أبناؤه في مجرى الثقافة العربية، آدابها وفنونها وعلومها، شواهدُ على فرادةٍ خاصّةٍ اتّصف بها. ويحترس واحدُنا إذا ما جال في خاطره سؤالٌ عمّا إذا كان هذا كلّه باقياً ومتجدّداً في البلد الذي نحبّ، فنظرةٌ، ولو من بعيد، إلى الأحوال العامّة الماثلة في الراهن اللبناني، على غير صعيدٍ وفي غير شأن، لن تسرّ البال. وهذه نتائج المؤشّر العربي 2022 قد تصيب قارئها بالذهول من "فرادةٍ" لبنانية مستجدّة، فقد حقّق اللبنانيون فيه منجزاً لافتاً، يستحقّ درساً معمّقاً، موجزُه أنّهم في الموضع الأخير من بين مواطني 14 بلداً عربياً شملته استطلاعات المؤشّر، في غير أمر. يتقدّم عليهم الجميع في تقييم الأوضاع السياسية في بلادهم، إذ يرى 94% من اللبنانيين الوضع السياسي في بلدهم سيئاً (25% سيئ، 69% سيئ جداً)، كما أنهم الأخيرون في تقييم الأوضاع الاقتصادية في بلدهم (83% يرونها سيئةً جداً). وفي المنزلة نفسها، لا يجد 96% الأمور تسير في الاتجاه الصحيح. لكنّ اللبنانيين في المنزلة الأولى من بين مواطني 14 دولة عربية في رغبتهم بالهجرة (63%)!. وليس هذا أمراً يحتاج تفسيرا، فالنسب المئوية هذه تنطق به. ويزيدُ من فداحتها أنّ لبنان هو البلد العربي قبل الأخير، في المؤشّر، من حيث تدني إحساس مواطنيه بمستوى الأمان في مناطق سكناهم (27% يرونَه سيئاً جداً، و22% سيئاً).
أما ما يضاعف الإحساس بأسىً أشدّ وقعاً، فإنّ لبنان هو البلد العربي الأول الذي يرى أهلُه الفساد فيه منتشراً جداً (88%)، وذلك مع إهمال نسبة 7% يروْنه منتشراً إلى حدٍّ ما. الفظيع هنا أنّ 1% فقط من اللبنانيين يرون الحكومة جادّة جداً في محاربته، و5% يرونها جادّة إلى حدٍّ ما، فيما 75% لا يرونها جادّة على الإطلاق (19%، غير جادّة). وبهذا، يقع لبنان في آخر الدول العربية في هذا الأمر. وهو الأخير أيضاً في رؤية ناسه مدى تطبيق القانون بالتساوي بين الناس، 54% يرون الدولة لا تفعل هذا على الإطلاق، 35% يرونها لا تفعله إلى حدٍّ ما. ونسبٌ كهذه تتسق مع وجود لبنان أخيراً، ودائماً بحسب المؤشّر العربي، في ثقة مواطنيه بالقضاء، فـ43% لا يثقون به إطلاقاً، و23% لا يثقون به إلى حدّ ما. ويُدهشك أيضاً أنّ اللبنانيين أحرزوا الموضع الأخير بين العرب بشأن الثقة بالمحاكم الشرعية (56% لا يثقون بها)، وأحرزوه أيضاً في نسبة الثقة بشركات القطاع الخاص (35% عدم ثقة إطلاقاً، 21% عدم ثقة إلى حدّ ما)، وأيضاً في تقييم خدمات الحكومة، إذ يراها 68% سيئة جداً، و25% يرونها سيئة.
ولئن عُدّ لبنان عقوداً مديدة بلد الحريات الإعلامية الأول عربياً، فإنّك تلحظ أنّ ناسَه قليلو الثقة بوسائل الإعلام المحلية بين ظهرانيهم، ولا يتقدّمون في هذا إلّا على بلديْن عربيين (السودان وموريتانيا)، فثقة 11% منهم فقط كبيرة بهذه الوسائط، و35% ثقتهم إلى حدّ ما، فيما عدم الثقة على الإطلاق 33% وإلى حدّ ما 21%. ولعلّها من مفارقاتٍ، أو من مستجدّاتٍ كاشفة ربما، أنّ لبنان في المنزلة العاشرة من بين الدول الـ14 التي عُني بها المؤشّر العربي في مدى اهتمام مواطنيه بالشؤون السياسية في بلدانهم. ولمعلّقٍ متعجّلٍ، مثل صاحب هذه الكلمات، أن ينوب هنا عن أصحاب الدرس في علوم السياسة والاجتماع، فيرى في أن 37% غير مهتمّين على الإطلاق، و28% مهتمّون قليلاً، وأنّهم فقط 10% المهتمون جداً، شاهدا على منسوب عالٍ من ضجر اللبنانيين الكثير من أهل السياسة في بلدهم، ما قد يدلّ على ما هو أكثر من ازدراءٍ لهؤلاء. ولعلّ الشعار غير المنسي، في هبّة تشرين 2019، "كلّن يعني كلّن" كان بليغاً في دلالته التي أعطانا المؤشّر العربي معطىً كمّياً بصدد ما ينطوي عليه هذا الشعار من مضامين.
هناك كثيرٌ مما يسَّره جهد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في المؤشّر العربي بشأن لبنان (وغيره طبعاً)، غير أنّ الإشارات الدالّة، والتي جاءت أعلاه بإيجاز، تبيح لواحدِنا أن يستفظع الحال اللبناني في تفاصيله، سيما في اهتراء ثقة المواطن بدولته ومؤسّساتها (القضاء مثلاً)، وهذا مؤسفٌ من قبلُ ومن بعد.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.